Your Cart
Loading

جائحة التعرفة الجمركية الأمريكية، كرة الثلج

شهد الاقتصاد العالمي خلال العقد الأخير اضطرابات جيوسياسية وتجارية متصاعدة، كان أبرزها ما يُعرف بـ"جائحة التعرفة الجمركية الأمريكية" التي اندلعت شرارتها الأولى عام 2018، عندما بدأت الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية مرتفعة على مئات المنتجات الصينية. ورغم أن هذا النزاع التجاري دار في الأساس بين قوتين اقتصاديتين عالميتين، إلا أن أثره امتدّ ككرة ثلج ليشمل الأسواق النامية والمتقدمة على حد سواء، ومن بينها الأسواق الخليجية التي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بسلاسل التوريد العالمية

 

الجائحة الجمركية ظاهرة اقتصادية متعددة الأبعاد

يُنظر إلى الحروب التجارية الحديثة على أنها أدوات سيادية لإعادة تشكيل موازين القوة الاقتصادية، غير أن تعقيدات العولمة جعلت من هذه السياسات أزمات نظامية تؤثر على أطراف بعيدة عن موقع النزاع الأصلي

ففي حالة الولايات المتحدة والصين، لم يكن المتضرر الوحيد هو الطرف المباشر، بل امتدت التداعيات لتطال العديد من الدول المرتبطة بسلاسل التوريد والتصنيع والتجارة العالمية


تأثر قنوات النقل إلى الأسواق الخليجية

ارتفاع تكلفة الاستيراد بسبب القيود الجمركية المفروضة على المنتجات الصينية في السوق الأمريكية، اضطرت الشركات الصينية إلى إعادة توجيه منتجاتها إلى أسواق أخرى بأسعار متغيرة، ما أدى إلى تقلبات حادة في الأسعار العالمية للعديد من المواد الأولية التي تستوردها دول الخليج، لا سيما في قطاع الإنشاءات والصناعة

 اضطراب سلاسل الإمداد، وتغير خارطة التوريد العالمي تسبب في تأخير تسليم الشحنات وارتفاع كلفة النقل والشحن البحري، مما أثّر على قدرة الشركات الخليجية على تنفيذ المشاريع في مواعيدها المحددة، خصوصًا في مشاريع البنية التحتية الكبرى

 التضخم المستورد، مع ازدياد التكاليف التشغيلية في قطاعات الصناعة والتجارة، انعكس ذلك على أسعار السلع الاستهلاكية في الأسواق المحلية، مسببًا ضغوطًا تضخمية غير ناتجة عن عوامل داخلية، بل عن "عدوى تجارية" خارجية

ضعف المرونة الاستراتيجية للمؤسسات، بحيث لم تكن أغلب الشركات الخليجية مستعدة للتعامل مع هذا النوع من الأزمات التجارية العابرة للحدود، ما كشف عن فجوات في إدارة المخاطر، واعتماد مفرط على موردين محددين دون وجود بدائل استراتيجية


الآثار القطاعية في الخليج – دراسة مقارنة

تفاوت تأثير الجائحة الجمركية على القطاعات الاقتصادية الخليجية من حيث الشدة والنطاق، ويمكن تلخيص أهم هذه الآثار كالتالي

قطاع الإنشاءات كان الأكثر تضررًا، حيث شهد ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار المواد الأساسية مثل الحديد والخرسانة، إلى جانب تأخيرات متكررة في تنفيذ المشاريع، نتيجة صعوبة الحصول على المعدات والمواد المستوردة من الأسواق المتأثرة

في القطاع الصناعي، ظهرت تحديات كبيرة في استيراد المعدات الثقيلة والخامات الصناعية من آسيا، ما أدى إلى تباطؤ بعض خطوط الإنتاج وتراجع القدرة التشغيلية في عدد من المصانع

أما قطاع التجزئة، فواجه آثارًا متوسطة تمثّلت في ارتفاع تدريجي لأسعار السلع المستوردة، خصوصًا الإلكترونية منها والسلع الاستهلاكية المعتمدة على سلاسل توريد عالمية

كذلك تأثر قطاع الخدمات اللوجستية باختناقات في الموانئ وسلاسل النقل، ما أدى إلى تأخيرات في الشحن وارتفاع في التكاليف التشغيلية، لا سيما في عمليات إعادة التصدير والتخليص الجمركي

أما على مستوى الاستثمار المؤسسي، فقد كان التأثير غير مباشر، لكنه واضح في تقلب العوائد الاستثمارية لبعض المحافظ، نتيجة لتأخر الإنجازات وتغير الكلفة التقديرية للقطاعات التي تستثمر فيها تلك المحافظ

هذا التباين في مستوى التأثر يُبرز أهمية فهم العلاقة بين السياسات التجارية العالمية وهيكل الاقتصاد المحلي، ويؤكد ضرورة تبنّي استراتيجيات مرنة للتعامل مع مثل هذه الاضطرابات


التحليل الأكاديمي لظاهرة كرة الثلج الجمركية

تكشف هذه الأزمة عن نموذج اقتصادي معقد يُعرف بـ"أثر المضاعف التجاري العالمي" حيث يؤدي قرار واحد في دولة عظمى إلى سلسلة من التأثيرات عبر طبقات الاقتصاد العالمي. فما بدا مجرد قرار سيادي للولايات المتحدة، تحوّل إلى زلزال اقتصادي أصاب الأطراف المرتبطة بها عبر قنوات غير مباشرة، منها

أسعار المواد الخام

حركة السفن واللوجستيات

التوترات في الأسواق المالية

انخفاض ثقة المستثمرين

ويُلاحظ هنا أن الأسواق الخليجية، رغم متانتها النقدية، لم تكن بمنأى عن هذا التأثير بحكم اعتمادها الكبير على الاستيراد ومشاركتها في مشاريع ضخمة ذات مكون دولي


الدروس المستفادة للأسواق الخليجية

أهمية تنويع مصادر التوريد لأن الاعتماد على دولة واحدة كمصدر رئيسي للمواد أو المعدات يُعد مخاطرة استراتيجية في بيئة تجارية غير مستقرة. تطوير أدوات إدارة المخاطر التجارية لأنه ينبغي للمؤسسات الخليجية أن تضمّن في استراتيجياتها أدوات مثل، التحوط ضد تقلبات الأسعار، ومرونة العقود، والتخطيط لسيناريوهات بديلة في سلسلة الإمداد


بناء الصناعات الاستراتيجية محليًا، وتحفيز التصنيع المحلي في المواد الأساسية والتكنولوجيا سيقلل من الانكشاف العالمي في حال تكرار مثل هذه الأزمات. ثم تعديل نماذج التمويل والاستثمار من خلال إعادة النظر في تقييمات المخاطر ضمن المشاريع الاستثمارية الكبرى، بحيث تُؤخذ التوترات التجارية العالمية بعين الاعتبار في التسعير وتوزيع الأرباح


التحولات في سلوك المستثمرين بعد الجائحة الجمركية

أثّرت الجائحة الجمركية على نمط تفكير المستثمرين ومدراء المحافظ المالية، ليس فقط من حيث تقييم الربحية، وإنما من حيث تقييم المخاطر الجيوسياسية كتحدٍ أساسي في نماذج العوائد. أصبح المستثمر أكثر حذرًا تجاه المشاريع المعتمدة على سلاسل إمداد خارجية طويلة، والاستثمارات في القطاعات الصناعية الثقيلة ذات حساسية عالية للتوريد، وكذلك العقود التي لا تحتوي على مرونة سعرية أو بنود محدثة للتضخم

 

كما ازدادت أهمية ما يُعرف بـ"الاستثمار المرن"، وهو توجّه جديد يُركّز على الاستثمارات سريعة التكيّف، القابلة لإعادة التوجيه الجغرافي أو التشغيلي في حال حدوث صدمات خارجية. وتبعًا لذلك، أصبحت المحافظ الاستثمارية في الخليج تُظهر تفضيلًا لقطاعات مثل، التكنولوجيا المالية باعتبارها غير مادية نسبيًا، والصناعات الغذائية والزراعية المحلية، اللوجستيات الذكية التي تدير التوريد بكفاءة عبر البيانات والرقمنة


الاستجابة الخليجية والسياسات التحوّطية

رغم أن القرار الجمركي لم يكن صادرًا من الخليج، إلا أن بعض الحكومات الخليجية تعاملت مع الأزمة بمنظور استباقي، فشهدنا برامج لتعزيز التصنيع المحلي وتوطين الصناعة (مثل "صنع في السعودية")، وإطلاق مبادرات لرقمنة سلاسل الإمداد وتبني الذكاء الصناعي في التخطيط اللوجستي، ودعم القطاعات الصغيرة والمتوسطة لإعادة هيكلة نموذج أعمالها بما يتناسب مع الواقع التجاري الجديد

وفي ذات الوقت، بدأت بعض المؤسسات الحكومية في مراجعة السياسات التعاقدية ضمن المشاريع الكبرى، وتبنّي صيغ جديدة من الشراكات المرنة التي تسمح بتعديل الكلفة والزمن في حال وقوع أزمات تجارية خارجية، الأمر الذي يعكس فهمًا متطورًا لأثر التجارة العالمية على الاستقرار المحلي


خاتمة

تكشف أزمة التعرفة الجمركية الأمريكية عن هشاشة بعض المفاهيم الاقتصادية المرتبطة بالعولمة، وتُقدّم درسًا استراتيجيًا بالغ الأهمية لدول الخليج. أن السيادة الاقتصادية لا تعني الاكتفاء الذاتي، بل تعني بناء نظام متوازن، مرن، ومتنوع قادر على امتصاص الصدمات التجارية العابرة للقارات. ولذا فإن المستقبل لن يكون للأقوى اقتصاديًا، بل للأكثر قدرة على إدارة المخاطر واستشراف التحديات