الحقيقة (وهذا رأيٌ شخصيٌّ، أكثر منه قول خبير) أنه ليس هناك احتمالٌ لاندلاع حرب عالمية ثالثة قريبة؛ لأن العالم - ببساطة - غير مستعد لهذه الخطوة، ولأن العصر الذي نعيش فيه الآن يجعل نشوب حرب كبرى كهذه خسارة فادحة على الجميع، في ظل شعوب تهدف إلى التطور التكنلوجي والنمو الاقتصادي في كل خطواتها، وأي دولة ستدخل حرباً كهذه فهي خاسرة في كل جوانبها، حتى وإن ربحت الصراع، فضلاً عن أننا نعيش اليوم في أوضاع علاقات دولية مختلفة عمَّا كانت عليه في القرن العشرين، فالدول - كلُّ الدول - مهما كانت في خصام ومنازعات مع غيرها، تظل هناك مصالح من جهة أخرى من الخطأ، بل من الخطر، تجاهلها أو خسارتها.
ولو جئنا إلى القنابل النووية، فبالرغم من كونها قنابل هجومية، لكنها في حقيقتها أُنشئت لأغراض دفاعية بالدرجة الأولى، فأنا أملك قنبلة نووية، إذن لن يجرؤ أحد على مهاجمتي، وكل الدول التي تملك قنابل نووية هي في الحقيقة عاجزة عن استخدامها، لأن في استخدامها خطراً عليها، تماماً كما هو خطر على الدولة المستهدفة، إذ إن تأثير القنبلة سيمتد إلى أقاصي الأرض، وهو ما من شأنه أن يحجِّم قدرات الدولة التي أطلقت القنبلة، حتى بعد إطلاقها وانتصارها.
لهذا نجد أنه كلما نشبت حرب وصراعات، قامت دول كثيرة بالتحذير من تصعيد الوضع، والجميع يطلب ضبط النفس والجلوس على طاولة الحوار لإطلاق السباب إن احتاج الأمر، لكن ليس لإطلاق القنابل والصواريخ، ومن هذا المنطلق نقول إنه لا توجد بين الدول تحالفات مطلقة ولا عداوات مطلقة، إنما هي مصالح تجعلني أحالفك وأخرى تجعلني أعاديك، وغداً سأستيقظ لأبحث عن مصالح أخرى تجعلني أغيِّر غريمي وصديقي.. وهكذا كل يوم، وربما كل ساعة.
نعم هناك حروب لا أحد يتدخل فيها، مثل الإبادة التي تتم على الشعب الفلسطيني، ذلك لأنها صراع بين قوي وضعيف، وهذا لا يؤثر اقتصاديًّا ولا سياسيًّا على بقية الدول، سواءً العربية منها، أو الأوروبية، أو غيرها؛ لذلك يتم هذا القصف وهذه الإبادة أمام ردات فعل مقتصرة على احتجاجات وشجب فقط، تماماً كما هي الأوضاع في السودان، ومثلها في سوريا ولبنان، وغيرها من الدول الشقيقة، صراعات لن تمسَّنا في شيء، إذن نكتفي بالشجب لكي نُعلن ونُطمئن شعوبنا أننا مع الحق، ثم لا شيء نفعله.. أما صراعات عظمى، مثلما حدث بين إيران وبين الكيان الأمريكي (إسرائيل)، فهذا صراع بين قوي وقوي، وله أضرار اقتصادية وسياسية وحدودية وأمنية على العالم، ما يستدعي أن نتحرك تحركاً حقيقيًّا لإيقاف التصعيد، ولا نكتفي بالشجب.
لا أحد يريد للحرب الكبرى أن تقوم، ودليل ذلك أنه حينما ضربت إيران القاعدة الأمريكية في قطر (القاعدة الأمريكية، وليس قطر ذاتها)، خافت أمريكا ولجأت إلى السِّلم على وجه السرعة، ولم ينبلج الفجر حتى تم إعلان إيقاف تبادل القصف، ليس لأن الأطراف تريد إيقاف إطلاق الصواريخ، بل لأن الأمر بدأ يتصاعد، فلزم أن تتحدث أمريكا هنا بلسان الأم الرؤوم، وأن تدعو - باسم الحب - إلى السلام بين إيران وإسرائيل.
ثم إذا تحدثنا من ناحية اقتصادية، فكل دول العالم تعاني من اقتصاد متزعزع، مهما كانت قوة الدولة ومهما كانت ميزانيتها تفيض، لكن الحقيقة أن العالم كله يمر باقتصاد يمشي على عكَّاز، خاصة وأننا لم نتنفس من جائحة كورونا بما يكفي لاستعادة نشاطنا بعد؛ لذلك فلا أحد يفكر بجدِّية لدخول حرب عالمية في هذه الفترة، فإن ادَّعت إحدى الدول ذلك، فهذا من باب التهديد الأجوف، وكلنا يعلم أنه أجوف.
إننا اليوم نعيش في بيوت من زجاج، لذلك - تماماً كما يقول المثل - لن يجرؤ أحد على رمي الطرف الآخر بالحجارة.
بعد كل ذلك، هل هناك احتمال لنشوب حرب عالمية ثالثة؟.. الجواب عندي هو: نعم.
نعم هناك احتمال لنشوب حرب عالمية ثالثة، ولكن ليس لأن طرفاً من الأطراف نهض صباحاً وهو يتثاءب ويقول: لنعلنها حرباً عالمية. بل إن الحرب ستقوم لأسباب خارجة عن إرادة كل الأطراف، ففي حالة الأخطاء الكبرى التي من الممكن أن يقترفها أحد الأطراف، والأخطاء الكبرى واردة بالفعل، ما يجعل دولة كبرى تتضرر جراء ذلك الخطأ، هنا من الممكن أن تقوم قائمة الحرب وتمتد الأيادي المتقاتلة لتتشابك، ونحن في المنتصف نستقبل اللطمات على وجوهنا، دون أن نملك حيلة.
غير أن مثل هذه الأخطاء ليست محتملة بدرجة كبرى، لكنَّ هذا لا يمنعنا من أن نتوقعها، ما دام من يملك العالمَ شرذمةٌ من الحمقى المجانين الذين يبحثون عن أنفسهم فقط في خضم هذه المعمعة الإنسانية، ويرون أنفسهم حيوانات في مجتمعات يحكمها قانونٌ أكثر همجية من قانون الغابة.
هناك مقولة لآينشتاين، وهو أحد العلماء الذين كان لهم دور في صناعة القنبلة النووية، يقول فيها: "أنا لا أعلم كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة، لكنني على يقين أن الرابعة ستكون بالعصي والحجارة"، هذا يجعلني أكرر أن العالم لا يريد أن يخسر كل ما وصل إليه من تقدم وتطور، ليعود إلى زمن يستخدم فيه الحجارة والعصي من جديد، غير أنَّ احتمال هذا لا يمكن تجاهله.
التعليقات ()