الإنسان كالبحر، كالأرض، كائن مليء بالأسرار، إذا غُصت في أعماقه كباحثٍ ستجد كنوزاً ثمينة؛ أو ربّما أوطاناً مدمَّرة..
ولا بدَّ من ترميم تلك الأوطان بأيادٍ خبيرة وفذة؛ لتزيل الدمار وتضع أساساً قويّاً متيناً من جديد، وهنا يأتي دور الصحّة النفسية..
إنَّ الأمراض النفسية يجبُ أن تماثلَ الأمراض الجسديّة بالنظرة المألوفة، إلّا أنَّ النظرة الاجتماعيّة السائدة المضرجة بالجهل والانغلاق جعلت النظرة إلى تلك الأمراض ملطخة بالظلام، أصبح يُنظر للإنسان المصاب بها، والمعترف بحقيقتها، على أنّ ذلك سيجعله يسجّل دخولاً رسميّاً إلى بوابة الجنون..
أصبح الإنسان أسيراً لتلك النظرة، غارقاً في ظلامه الدامس، وحيداً في حربٍ خاسرة مع نفسه، لا جيش ينقذه ولا مجتمع ينصفه..
الإنسان السوي يعي جيّداً أنَّ الأمراض النفسية موجودة بالفعل، وأنّها كالأمراض الجسدية لها معالج ودواء، كثير من العلماء والأطباء بحثوا في النفس الإنسانية من أوجه نظر مختلفة.
من أبرز هؤلاء الأطباء سيغموند فرويد، الذي يرى أن المرض النفسي هو نتيجة لتفاعلٍ معقدٍ بين العوامل الوراثية والتجارب المبكرة، ما يؤدي إلى صراعات نفسية غير واعية. يتم التعبير عن هذه الصراعات من خلال أعراض نفسية مختلفة.
أما من وجهة نظر كارل يونغ، أحد أبرز تلاميذ سيغموند فرويد، فقد قدم نظرة مختلفة عن المرض النفسي، رغم أنهما اشتركا في الاعتقاد بأهمية اللاوعي. يونغ توسع في فهم اللاوعي، ورأى أنه يتجاوز تجارب الفرد الشخصية، ليصل إلى ما أسماه بـ”اللاوعي الجمعي“، وهو مخزن للأنماط السلوكية والأفكار التي ورثناها عبر الأجيال.
أمّا آرون تي بيك فقد ركّز على الأفكار التلقائيّة..
آرون تي بيك، أحد أبرز علماء النفس المعاصرين، قدم نظرية شاملة عن الأمراض النفسية، تركز على دور الأفكار والتأويلات المعرفية في نشوء هذه الأمراض.
بعبارة مبسطة، يرى بيك أن الأمراض النفسية ليست نتيجة لاضطرابات كيميائية في الدماغ فقط، بل هي أيضًا نتيجة لأفكارنا وسلوكياتنا وردود أفعالنا تجاه المواقف والأحداث.
مفهوم الأفكار التلقائية:
* الأفكار التلقائية: هي أفكار سلبية وغير منطقية، تظهر تلقائيًا في أذهان الأشخاص المصابين بالأمراض النفسية، مثل الاكتئاب والقلق.
* هذه الأفكار غالبًا ما تكون مبالغاً فيها وغير واقعية، وتؤدي إلى تشويه تصور الشخص للواقع.
* أمثلة على الأفكار التلقائية: ”أنا فاشل“، ”لا أحد يحبني“، ”سأفشل في كل ما أقوم به“.
فيما يلي أهم الأمراض النفسية شيوعاً:
تعتبر الأمراض النفسية من أكثر المشاكل الصحية انتشارًا في العالم، وتؤثر على جميع الفئات العمرية والأجناس والثقافات. رغم التنوع الكبير في أنواع الاضطرابات النفسية، إلا أن بعضها يعتبر أكثر شيوعًا من غيره.
من بين أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا:
* الاكتئاب: يعتبر من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا، ويتسم بمشاعر الحزن الشديد، وفقدان الاهتمام والمتعة في الحياة اليومية.
* القلق: يشمل مجموعةً واسعةً من الاضطرابات، مثل اضطراب الهلع واضطراب الوسواس القهري، ويتسم بمشاعر القلق والخوف المفرطين.
* اضطرابات المزاج ثنائي القطب: يتصف هذا الاضطراب بتقلبات حادة في المزاج، من الاكتئاب الشديد إلى الهوس المفرط.
* اضطرابات القلق العام: يشعر المصابون بهذا الاضطراب بالقلق المستمر والمفرط بشأن مجموعة واسعة من المواقف والأحداث.
* اضطراب ما بعد الصدمة: يحدث هذا الاضطراب عادة بعد التعرض لصدمة نفسية شديدة، ويتسم بأعراض، مثل الكوابيس، وتجنب الموقف المؤلم، وفرط اليقظة.
* اضطرابات الأكل: تشمل هذه الاضطرابات مجموعة من السلوكيات غير الصحية المتعلقة بالأكل، مثل فقدان الشهية، أو الشَّره المرضي.
معدلات الإصابة بالأمراض النفسية، تحدٍّ في القياس والدراسة:
يُعتبر تقدير معدلات الإصابة بالأمراض النفسية تحدِّيًا كبيرًا، وذلك لعدة أسباب:
* التعريف المتغير: تختلف تعريفات الأمراض النفسية وشدتها من ثقافة إلى أخرى ومن نظام صحي إلى آخر.
* التشخيص غير الدقيق: قد يتم تشخيص بعض الحالات خطأً، وقد لا يتم تشخيص حالات أخرى بسبب نقص الوعي أو الخوف من الوصمة الاجتماعية.
التغيرات في معدلات الانتشار:
تتغير معدلات انتشار الأمراض النفسية بمرور الوقت وتتأثر بعوامل عديدة، مثل الأحداث العالمية، التغيرات الاجتماعية، والتحولات الاقتصادية.
العوامل المؤثرة في انتشار الأمراض النفسية:
* العوامل الوراثية: تلعب الجينات دورًا مهمًا في الإصابة بالعديد من الأمراض النفسية.
* العوامل البيئية: تشمل الأحداث المؤلمة، الضغوط النفسية، العلاقات الاجتماعية السلبية، والفقر.
* العوامل الكيميائية: اختلال توازن المواد الكيميائية في الدماغ، مثل السيروتونين والدوبامين والنورإبينفرين.
***
بعد ما تمَّ عرضه من تعاريف وأمراض شائعة وعوامل مؤثرة، سنعرض بعض القصص الواقعية التي تمَّ البحث والاستقصاء حولها، لبعض المشخصين بالأمراض النفسية الشائعة:
التقيت بفتاة تبلغ من العمر الخامسة والعشرين، عندما طلبت منها أن تصف حالتها النفسية بجملة واحدة، قدمت أعمق شيء يمكن أن يصف المُصاب بالاكتئاب قائلة: ”أقف على جرف، والموت شهيٌّ في الهاوية“.
في قصّة أخرى حدثني بها رجل مُصاب بالفصام: ”يخبرونني أنّي ممسوس بروحٍ شريرة تحولني لرجل شرير خارق، غارق في الدجل إلى أن يشاء الله.. دخولي لطبيب نفسي سيكون وصمة عار ستلاحقني إلى الأبد“.
فيما أخبرني طبيب أنّ الكثير يعانون من الخوف من المجتمع، والأكثرية تعيش مع مرضها النفسي دون علاج، مسببة لنفسها أذى فرديًّا وجماعيًّا، قد يصلُ في بعض الأحيان إلى الانتحار.
أسباب نظرة المجتمع للمريض النفسي على أنّه مجنون:
تتعدد الأسباب التي تدفع المجتمع إلى النظر إلى المريض النفسي على أنه ”مجنون“، وغالبًا ما تكون نتيجةً لجهل وتصورات خاطئة وسلبية. إليك بعض هذه الأسباب:
* الجهل وعدم الفهم: لا يزال هناك جهل كبير حول الأمراض النفسية وأسبابها وعلاجها، إذ يعتقد الكثير من الناس أن الأمراض النفسية ناتجة عن ضعف الإرادة أو السحر أو العين، وليس عن اضطرابات في الدماغ أو الكيمياء الحيوية.
* الوصمة الاجتماعية: يرتبط المرض النفسي بوصمة اجتماعية قوية، حيث يُنظر إلى المصابين به على أنهم مختلفون وغير طبيعيين، وقد يشعرون بالخجل والعار من طلب المساعدة.
* الخوف من المجهول: يخشى بعض الناس من الأمراض النفسية لأنهم لا يفهمونها، وقد يعتقدون أن المصابين بها خطرون، أو غير قابل للتنبؤ بسلوكهم.
* التأثير الإعلامي: تساهم وسائل الإعلام في ترسيخ هذه الصورة النمطية من خلال تصوير المرضى النفسيين بشكل سلبي ومبالغ فيه.
* التراث الثقافي والديني: تؤثر التقاليد والعادات الثقافية والدينية على نظرة المجتمع للأمراض النفسية. ففي بعض الثقافات يُنظر إلى المرض النفسي على أنه عقاب إلهي، أو نتيجة لسوء السلوك.
آثار هذه النظرة السلبية:
* تأخير طلب العلاج: يؤدي الخوف من الوصمة الاجتماعية إلى تأخر الكثير من المرضى عن طلب العلاج، مما يؤدي إلى تفاقم حالتهم.
* العزلة الاجتماعية: يشعر المصابون بالأمراض النفسية بالعزلة والوحدة، مما يزيد من معاناتهم.
* التمييز: يتعرض المصابون بالأمراض النفسية للتمييز في العديد من المجالات، مثل العمل والتعليم والعلاقات الاجتماعية.
كيف يمكن تغيير هذه النظرة؟
* التوعية: نشر الوعي حول الأمراض النفسية وأسبابها وعلاجها، وتوضيح أن المرض النفسي مثل أي مرض عضوي آخر.
* التثقيف: تثقيف المجتمع حول أهمية طلب المساعدة النفسية، وتغيير النظرة السلبية المرتبطة بها.
* دعم المصابين: توفير الدعم للمصابين بالأمراض النفسية وعائلاتهم، وتشجيعهم على طلب العلاج.
* تغيير التشريعات: سن قوانين لحماية حقوق المصابين بالأمراض النفسية، ومنع التمييز ضدهم.
دور الإعلام:
للإعلام دور كبير في تغيير هذه النظرة، وذلك من خلال:
* تقديم برامج توعوية حول الصحة النفسية.
* عرض قصص واقعية لمصابين بالأمراض النفسية تمكنوا من التعافي.
* تجنب استخدام الأوصاف النمطية والمهينة عند الحديث عن الأمراض النفسية.
إن تغيير نظرة المجتمع للمرض النفسي يتطلب جهدًا مشتركًا من قبل الأفراد والمؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام. يجب أن نعمل جميعًا على خلق مجتمع أكثر تقبلًا وتفهمًا للأمراض النفسية.
ختاماً:
علينا أن نعي أهميّة العلاج المبكّر للأمراض النفسيّة، وأنَّ إهمالها سيترتب عليه الكثير من الآثار السلبية؛ كجرائم القتل، أو الانتحار، أو أذى فردي، العلاج النفسي هو الخطوة الأولى في طريق التعافي، كما أنَّ الله لم يخلق داء إلّا وله دواء، مشاركتك في النظرة الاجتماعية المتطرفة للمرضى النفسي هي تصريح واضح بأنك شريك رئيسي في معاناتهم.. وقد تكون في بعض الأحيان مجرماً دون أن تعي.
المراجع:
١- التحليل النفسي والفن.. دافنشي.. دويستوفيسكي| سيغموند فرويد
٢- موسوعة الطب النفسي| د. أحمد عكاشة
٣- العلاج السلوكي (المعرفي) والاضطرابات الإنفعالية| آرون بيك
التعليقات ()