الأكل ثقافة محترمة، مثله مثل الفكر والفنون والرياضة، بل إن ثقافة الأكل تفوق في بعض الأحايين بقية الثقافات الأخرى، ونلاحظ ذلك في كثرة المطاعم مقارنة مثلاً بالمكتبات والمؤسسات الثقافية، بل إن المحاضرات والندوات تعقبها دائماً جلسات أكل، وكثير من اجتماعات الدوائر والمؤسسات تُجرى على موائد الطعام في وجبات رسمية؛ غداء أو عشاء عمل.
هناك من لامني أنني افتتحت مكتبة بدلاً من مطعم.. وكانوا على حق؛ أُغلقت المكتبة، وراجت المطاعم في المنطقة بكثرة.
على أنَّ الثقافة مرتبطة بالأكل إلى حدٍّ كبير، وحين نتحدث عن الأكل فالشراب صِنوه، ألا ترى القارئ حين ينشر في مواقع التواصل صورة كتابٍ يُشرك مع الصورة كوب قهوة أو شاي؟ ولمَّا ذكرتُ مرة أنني لا أشرب القهوة آثار هذا استغراب بعض المتابعين، إذ هل يوجد كاتب لا يشرب القهوة؟.. نعم، هو أنا وقليلٌ أمثالي، إلى درجة أنني في إحدى المرات قمت بتصوير كتاب مع تفاحة، وذكرت أنني أحب التفاح وقت القراءة أكثر من القهوة والشاي، وهذا مخالفٌ لرأي إيميل سيواران.
يقول سيواران: «ألاَّ تأكل مثل الآخرين أسوأ من ألاَّ تفكِّر مثلهم»، هذا ما يفعله بالضبط أي سائح لأي بلد يزوره؛ أن يأكل من أكل البلد الذي يزوره، خاصة الأكل التقليدي والشعبي منه، أكثر من أن يزور معالمه ومتاحفه.
ثم إنَّ الأكل مع عامة الشعب شكل من أشكال التواضع من الوجهاء، وحدث أن زارنا السلطان هيثم بن طارق في مسندم، واجتمع بنا في سيح المحاسن بولاية خصب، وبعد الاجتماع فُرشت المائدة وجَالَسَنا جلالتُه بنفسه يؤاكلنا من المائدة ذاتها.
وحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً متهيِّباً إيَّاه وترتجف يداه، قال له: [إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة]، فحين تعلم أن الرجل الذي أمامك، أيًّا كان مقامه، يأكل كما تأكل ويشرب كما تشرب، يتلطف الجو بينكما، وفي مصر مقولة تقول: "اللي شرب من مية النيل لازم يرجع تاني"، وكأن علاقة الناس بعضها ببعض متوقفة على ما يأكلون معاً وما يشربون.
ومن عاداتنا أنك إذا زرت منزلاً يتوجب على المضيف أن يضع طعاماً (نسميه فالة) للضيوف، فإن لم يأكل الضيف كانت قلة أدب منه، إلاَّ بعذر، لذلك حينما زار إبراهيمَ عليه السلام ضيوفٌ، جاء لهم بعجلٍ حنيذ، ثم حين لم يمد الضيوفُ أيديهم ليأكلوا، أوجس منهم خيفة، فالضيف حين يمتنع عن الأكل معناه أن وراءه أمر؛ لهذا يقدِّم البدو القهوة لضيوفهم، وإذا كان في قلوب الضيوف شيء امتنعوا عن شربها فيستاء المضيف، ويسعى إلى إرضائهم بكل الطرق، حتى وإن كانوا أعداء.
وحين زرت تايلند أحببت فواكههم الطازجة، لكنني بالمقابل كرهت مطابخهم العامة التي تشوي الحشرات، منظرها مقزز وتنبعث منها روائح نتنة، وهذا يجعل المرء يحكم على الشعب حكماً سيئاً حتى قبل أن يعاشرهم، تماماً كما حدث معي شخصيًّا ذات مرة، حين زار منطقتنا أحد المعارف فاستضفته في منزلي، وضعت أمامه مختلف أنواع الأطعمة، من أرز وسمك وحبَّار وفواكه متنوعة، ثم قال: "لو كنتَ من قبيلة الشحوح لذبحت ذبيحة"، وكان هذا انتقاصٌ في حقي.. نفس هذا الرجلِ الشحيِّ زرته في بلده أكثر من مرة، يصافحني ويختفي.
وقد سمعت عن فتاةٍ أنها رفضت الزواج من شاب بحجة أنه يأكل الجراد، وقالت إنها لا تحب الجراد، فقيل لها: "إنك لن تأكلي معه"، فقالت: "سيأكل هو، ثم يأتي ويقبِّلني في فمي".
وأتذكر حين كنت صغيراً أنني لا آكل الشوكولاته، إنما أمصُّها إلى أن تذوب في فمي، فتبقى حلاوة الشوكولاته فترة أطول، وكنتُ أُرغم أختي الصغيرة على أن تفعل مثلما أفعل، وكان هناك بسكوتٌ أسطوانيُّ الشكل - نسميه "بسكوت تموشي" - كنت حين آكله أقضم قضمات صغيرة من أطرافه، وأتلذذ به فترة أطول، وأيضاً كنت أرغم أختي على أن تأكل مثلما آكل.
في لغة العولمة يقال إن العالم صار قرية صغيرة، لكن الحقيقة أنه صار مطعماً صغيراً، إذ يمكنك الآن زيارة أي مطعم وطلب الأكل الآسيوي أو الأوروبي أو الخليجي الذي تريد بكل بساطة.. صحيح يختلف الطعم والجودة، لكن الاسم واحد.
التعليقات ()