اللغة المهيمنة في المسرح دائماً، من جهة الجمهور، هي لغة التأويل.
وإذ نتحدث عن التأويل المسرحي فإننا نتحدث عن شكل من أشكالِ التأويلِ معقدٍ بعض الشيء، فأنت تُؤول كل أداة من أدوات المسرح على حدة، تأويلات مختلفة، ثم تجمع تلك الأدوات في قالب واحد وتخرج بتأويل شامل، موازٍ للتأويلات الفردية السابقة، وكأنك تصنع أبعاداً كثيرة من التأويلات، تُفضي بك إلى التأويل الأعظم.
فأنت تُؤول شخصيات المسرحية فرداً فرداً، وتؤول النص كلمة كلمة، وتؤول الحوار سطراً سطراً، حتى الديكور له تأويله، وحركات جسد الممثل الواحد له تأويله، بل والموسيقى والإضاءة والإظلام أيضاً لها تأويلاتها، ولو لم نبالغ فسنقول إن رد فعل الجماهير في مواضع معينة من المشهد المسرحي له تأويله الذي يُحترم كذلك، ثم تأتي أنت لتجمع كل هذه التأويلات فتصنع تأويلك الخاص من المسرحية.. وأقول تأويلك الخاص؛ لأنَّ كلَّ متلقٍ فعلاً له تأويلُهُ الذي يخصه، فما أراه أنا من زاوية جلوسي، وزاوية فكري، وزاوية ثقافتي، يختلف عمَّا تراه أنت من زاوية جلوسك وفكرك وثقافتك، ويختلف عمَّا يراه غيري وغيرك، فيخرج كل واحد منا برسالة مغايرة عن رسالة الآخر، فانظر كم رسالة من الممكن أن نخرج بها من عرض مسرحي واحد، إذا ما جلسنا، كلُّ واحدٍ منا، يطرح زاويةَ تأويله للآخرين.
وهذا تماماً ما صار في (مهرجان المسرح العربي)، الذي أقيم في العاصمة مسقط في دورته الخامسة عشر، من تاريخ 9 إلى 15 يناير 2025م، والذي استضافتني فيه الجمعية العمانية للمسرح كي أحضر عروضه المسرحية البهية.. عروض، ونقاشات، ونقد، أفضت إلى اختلافات كثيرة ومعانٍ عديدة، أثرت عقولنا وأفكارنا.
وقد لاحظتُ أنَّ العروض المسرحية في هذا المهرجان تحدَّثت بلغات مختلفة، كل عرض ينافس الآخر كي يوصلَ لا أقول رسالته، بل رسائله إلى المتلقي النَّهم، فمِن عروضٍ تحدثت بلغة الحوار، إلى عروضٍ تحدثت بلغة الغناء، إلى أخرى استخدمت لغة الرقص والاستعراض، منها ما تحدثت بلغة الكوميديا ومنها من لجأت إلى الدراما والتراجيديا، حتى المونودراما كانت حاضرة ولها ثقلها في العروض، بل وحتى لغة الصمت كذلك؛ هناك من صنع منها ضجيجاً على خشبة المسرح.
إن المسرح له لغات كثيرة، وسواء تحدث بالفصحى أو باللهجة، فَهِمْنَا المنطوقَ أو لم نفهمه، فإن عوامل أخرى كثيرة تساعد على إيصال الرسائل، وكلُّ ما علينا، نحن المتلقين، سوى أن نجلس متربعين على كراسينا، نشاهد ونقرأ ونستمع، ثم نُؤول.
لذلك لا تنتظر تأويلاً واضحاً من عملٍ مسرحي، فإن فعلتَ وانتظرتَ فلن تصل إلى العمل وعمقه الحقيقي، ولن تنبت في أرضك، مهما كانت خصبةً، أيُّ شجرة، فإن نبتت الأشجارُ فلن تثمر، لكن أنت - المتلقي - بحاجة إلى أن تجتهد في التأويل، ولو قليلاً، لتخرج بثمرتك التي ترجوها من المسرح.
انتهى مهرجان المسرح العربي المقام في مسقط هذا العام، بكل ما كان فيه من بهجة وسرور، تعارفنا فيه على نخبة من المسرحيين من أقطار مختلفة من الوطن العربي، على أمل أن نتمكن من المشاركة أو الحضور عام 2026 في قاهرة المعز؛ عاصمة الثقافة العربية.
التعليقات ()