بيتُ شعرٍ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول فيه:
إنما الدنيا كبحرٍ
يحتوي سمكاً وحوت
ليس لمجرد أن البحر جميل وفيه سمكٌ لطيف، معنى ذلك أنك ستنزل فيه تسبح وتستمتع كأنك في الجنة، كلا، ثمة حيتان من الممكن أن تأكلك من الخطأ أن تأمنها، إنَّ نظريتك في أن الحوت لا يصل إلى الشاطئ خاطئة، هناك حيتان تصل، فما بالك بالحيتان البشرية؟.. على الأقل تجنب أسماك القرش، إنها تسبح قريباً من الشواطئ.
والمصريون يقولون: «يا مآمن للرجالة، يا مآمن للغربال»، ورغم ما يحمله هذا المثل من عنصرية جنسية، لكنه مثلٌ صادق، غير أنه ينطبق على كلا الجنسين معاً، فأن تضع ثقتك في أحد، ذكراً أو أنثى، كأنك وضعته في غربال، وهو ”المشخلة“ أو ”المشخال“ في لهجتنا، لن تحافظ عليك ولن تحتفظ بك، ستتسرب من بين يديها كأنك لا شيء.
وأغلب الناس هذا شأنهم، لا أمان لهم، ومن يأمن يضيع ويتيه، وكثيرٌ ممن أمنوا ندموا حيث لا ينفع الندم.. والعرب قديماً كانت تُدرج (الخل الوفي) ضمن المستحيلات الثلاثة، ولم يأتِ هذا من فراغ.. نعم هناك من الناس الأمينون، لكنهم قلة، وليس من العقل أن تضع نفسك في موضع تهلكة لمجرد أن هذا الشخص من الممكن أن يكون ضمن أولئك النادرين، كان عمر بن الخطاب يقول عن نفسه: «لستُ بالخبِّ (أي المخادع)، ولا الخبُّ يخدعني»، وسبب ذلك أنه حذرٌ كثيراً في تعامله مع الناس، حتى إنه في إحدى قضاياه مع رجل سأل عنه: «هل يعرفه أحد؟»، فقال رجل: «أنا أعرفه»، فسأله عمر: «هل سافرت معه؟ هل عاملته بالدرهم والدينار؟ هل..؟ هل..؟ هل..؟»، فلما قال الرجل: «لا، لا ،لا»، قال عمر: «إذن لا تعرفه».. الشاهد هو أن الحذر من الناس هو الأصل، لا الأمان المفرط.
وهنا مربط فرسنا، أن نكون حذرين ونحن نتعامل مع هذا وذاك، وأن نتجنب الثقة المفرطة في الآخرين، فضلاً عن العمياء، مهما بدو رائعين وذوي خُلُق، إن المصالح هي اللغة السائدة التي يتكلم بها العامة، سواء جهراً وعياناً، أو خفية وتستُّراً، وكم سمعنا عمَّن بكى من طعنةٍ تلقاها من الخلف بيد أقرب الناس إليه وأكثرهم ثقة، وهذا كثير في حوادث البشر، اسأل يوليوس قيصر يخبرك عن بروتس وما فعله به، يقال: «احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة».
حتى في القرآن الكريم، لفظة [أكثرهم/ أكثركم] تنطبق على السيء من الناس، ولفظة [قليل] تضم الفئة الصالحة.
كذلك لا تعتمد على النية في قلوب الآخرين، إنما الأعمال بالنيات عند الله، لكننا هنا نتعامل بالظاهرِ والمعروفِ والمشهورِ عن الناس، فالبشر على صفتين؛ إما أنهم ينوون أن يؤذوك، فهؤلاء تحذر منهم بطبيعة الحال، وإما نيتهم صافية ويريدون مصلحتك، لكنهم يقدِّرون مصلحتك على مقياسهم هم، وربما ذاك المقياس لا يناسبك، فهؤلاء يضرونك أيضاً، فاحذرهم.. من بقي؟ لا أحد!
لهذا عليك أن تتوقع الأسوأ من الجميع، وهذا يجعلك حذراً، ثم بعد ذلك إن أصابك السيءُ كان أهونَ من الأسوأ بلا شك.
يقول الشافعي:
يمشي الفقيرُ وكلُّ شيء ضده
والناسُ تغلق دونه أبوابها
وتراه ممقوتاً وليس بمذنبٍ
ويرى العداوةَ لا يرى أسبابها
حتى الكلابُ إذا رأته مقبلاً
نبحت عليه وكشَّرت أنيابها
وإذا رأت يوماً غنيًّا ماشياً
حنَّت عليه وحرَّكت أذنابها
إن الغنيَّ إذا تكلَّم بالخطا
قالوا ”أصبتَ“، وصدَّقوا ما قالا
وإذا الفقيرُ أصاب قالوا كلُّهم
”أخطأت يا هذا وقلتَ ضلالا“
بعد هذا الشاهد، لا يليق بالفقير أن يأمن أحداً، فإذا جاءه من يحادثه بلطف، فهي غالباً مصالح شخصية، فليتعامل معه بحذر.
ثم إذا كان الناس هكذا مع الفقير، على الغنيِّ أن يفطن إلى أن الناس الذين من حوله ليسوا حوله إلاَّ من أجل ماله، وإلاَّ فهو لا يساوي شيئاً بشخصه عندهم، ولهذا يلزمه أن يتعامل معهم في حذر، فهم مجموعة من الطامعين ليس إلاَّ، وهم أول من سيلفظه إذا فقد ماله.
الخلاصة، كما يقول المثل: ”خوِّن، ولا تؤمِّن“، إذ لطالما أُكلت الكتف من مأمنها.
***
الجهة الأخرى من مقالنا: «ماذا لو جاء معتذراً؟»، السؤال الذي ذُبح طرحاً في مواقع التواصل، وكلٌّ يَدلو بدلوه حسب وجهة نظره، أو حسب مشاعره الخاصة؛ هل نصفح عنه، أم نعاقبه ونأخذه بالقَصاص؟
العقلُ والمنطقُ والدينُ والحكمةُ، كلُّهم - بعيداً عن المشاعر - يقولون: لا تصفح؛ لأن العفو والصفح عن المخطئين (خاصة إن تكرر منهم الخطأ، وتكرر منك الصفح)، معناه أنَّ هذا المخطئ لن يشعر بجريمته، سيتوقع الصفح دائماً وسيتمادى في غيِّه وظلمه وطعناته للآخرين، أنت مظلومٌ حين طعنك أول مرة، لكن يُخاف أن تصير ظالماً حين تكون بعيداً عن مسرح الجريمة ويأتي الظالم الأول ويظلم غيرك، والسبب أنك قد صفحت عنه أول مرة فتمادى في الثانية، أنت - بعفوك عنه - سببُ تماديه، فيُظلم آخر بسببك.
نعم قد تصفح، لكنَّ هذا في حالة واحدة فقط؛ إذا كان صفحك يُفضي إلى إصلاح، أو أن تكون على يقين أن الظالم قد تاب وندم عن جريمته، هنا مطلوبٌ منك الصفح والعفو، اختياراً وليس إلزاماً؛ {ألا تحبون أن يغفر اللهُ لكم}؟
الخلاصة الثانية: أنت في دنياك تتعامل إما مع البشر، وإما مع صروف الدهر، فأما البشر فكن على حذر وتوقع الأسوأ منهم دائماً، وأما في تعاملك مع تصاريف الدهر، فالدهر هو الله، ومن أحسنَ بالله الظن كان اللهُ عند حسن ظن عبده به، توكَّل وخُض معترك الحياة بكل ثقة وحزم، ما دمت قد أخذت بالأسباب.
التعليقات ()