جرى حوار بين رجل مطحون وغراب.
المطحون يسأل: «ما فائدة وجودنا في هذه الحياة؟»، فيجيبه الغراب: «إننا نحيا كي نستمتع»، فيقول المطحون بلسان حاله: «كيف؟ هذا صعب، الحياة مقيتة جدًّا، والألم لا يتوقف مع مرور الزمن، فمن سرَّه زمنٌ - كما يقول أبو العتاهية في شِعره - ساءته أزمان».
يأخذ المطحون رؤيته للحياة من منظور واقعه وتجربته وما عايشه من مشقةٍ وكَبَد، أما الغراب فرؤيته للحياة يستمدها من منظور البساطةِ من جهةِ حياته التي تقتصر على الأكل والشرب وقضاء الحاجات البسيطة.
مطحونُنا المسكين لا يملك أن يفرِّق بين الغم والهم، لكننا نعلم أن الغمَّ منبوذ؛ يقطع شرايين القلب ويوجع الروح ويجعل الدنيا مظلمة، هكذا يعيش المطحونُ من دون استمتاع، وربما من دون حياة.. وأما الهمُّ فالإنسانُ الحقيقيُّ هو الذي يجب أن تكون لديه هموم؛ أن يهتم بأسرته ومعيشته ونفسه وحاله.. هو مأمور بأن يسعى، وأما نتاج سعيه فليس من اختصاصه، إذا حصل له ما يبحث عنه فبها ونعمة، وإن لم يحصل بعد سعيه وجهده، فهذا قَدَر.. لا يستسلم طبعاً، يستمر في السعي، غير أنَّ الحُكْمَ النهائيَّ للقدر.
ولكن ماذا عن الاستمتاع بالحياة والسعادة؟ خُلقت الدنيا حلوة جميلة، فهل نلزم الكَبَدَ طيلة حياتنا؟
نعم خُلقنا في كَبَد، لكنَّ هذا لا يتعارض مع السعادة، الكَبَد معناه التعب ولا يعني مطلقاً الحزن والكآبة والتعاسة، وكم من كَبَدٍ وتعبٍ يُفضيان إلى متعة.. إن الحياة ترفض أن تصيِّرك مطحوناً، فلا تصيِّر نفسك بنفسك.
كيف يسعد المطحون إذن؟
يسعد بأن يستمر في سعيه: {وأن ليس للإنسانِ إلاَّ ما سعى* وأنَّ سعيه سوف يُرى}، فإذا كان المطحون يؤمن بهذا القول الكريم، ويؤمن بأن سعيه سوف يُرى، (يراه كما يحبه هو، أو كما يحبه الله له)؛ عندها سيستشعر السعادة الداخلية في قلبه وفي روحه.
وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذا همٍّ عظيم (همِّ أمةٍ بأكملها)، ومع ذلك يقول: [حُبِّب إليَّ من دنياكم الطِّيبُ والنساء]، فهو عليه السلام وَكَّلَ أمره إلى ربه، مؤمناً أنَّ سعيه سوف يُرى، فهو يتوقف بين الحين والآخر أمام الحياة يبتهج بما حُبِّب إليه.. المطحون كذلك يعمل ويسعى، ثم ليتوقف أمام ما ملكت يداه من الأمور الحلوة وليستمتع بها.
يُقال كذلك إن القناعة كنز لا يفنى، فمن اقتنع بما يملك - على قلته - صار سعيداً، وإن طحنته الحياة.. ثم إنَّ القناعة لا تتعارض مع الطموح في شيء؛ اسعَ واعمل واطمح إلى أن تحصل على ما لا تملك، أو على المزيد مما تملك، ثم اقنع بما آل إليه سعيك، تجد السعادة في قلبك.
قال الغراب أخيراً، يجيب المطحون: «استمتع بالحياة رغم صعوبتها، ومع الزمن سيصير الصعب سهلاً.. الصعوبة والسهولة شعورٌ وإحساسٌ قبل أن يكونا مادة نتلمسها.. أنت مطحونٌ فقط لأنك ترى نفسك مطحوناً قد أكل الدهرُ منك وشرب، لكن توقف أمام الدهر قليلاً، كُل أنت منه واشرب، ولسوف تستمتع».
أنهى الغراب حواره مع المطحون وطار مبتعداً يبحث عن ابتسامته في مكان آخر، فهو يدرك أن السعادة توجد حيث الناس الذين يستشعرونها، أكثر من وجودها عند الذين يشعرون بها، فما بالك عند من لا يراها وهي بين يديه؟
التعليقات ()