نفرح كثيراً حين تقع أيدينا على صور قديمة لمنطقتنا، أو لأنفسنا وأهلينا، ذلك أنه قديماً لم تكن ثقافة التصوير حاضرة، والكاميرات اختراع نادر، ثم حينما وصلت الكاميرات صار الناس يستخدمونها إما على استحياء، أو على خوف.
لهذا قليلة هي الصور التي نملكها عن المنطقة، ونكاد لا نعثر لأنفسنا على صور ونحن صغار، أو لأهلينا كبارَ السن أو الميتين منهم، اللهم إلاَّ بعض المستكشفين الغرب الذين كانوا قد زاروا المنطقة قديماً ومعهم كاميراتهم، ثم عادوا وزاروها من جديد وفي جعبتهم الكثير من المفاجآت الفوتوجرافية.
أما اليوم فقد اختلف الوضع، صار كلُّ فرد لديه كاميرته الخاصة في جيبه، بل وكلُّ طفل يستطيع أن يلتقط الصور أينما شاء وبأسهل الطرق، صوراً فورية دون الحاجة إلى انتظارِ أفلامِ النيجاتيف أن تمتلئ ليأخذها إلى محلات التصوير لتحميضها، بل كل ما يحتاجونه هو ضغطة (كليك)، وينتهي الأمر.
ثم انقلبت الدنيا كلُّها رأساً على عقب، فصار العالم يستند إلى التصوير والتوثيق الفوتجرافي.. ومع دخول تقنية السوشيال ميديا، وكيف أن الشهرةَ غدت مطلباً أساساً للتفوق، والتصويرُ هو اللغة الأولى في الوصول إلى الشهرة؛ نسى الناس كل معالم التواصل الحقيقي، وأصبحوا في كل جلساتهم وأسفارهم مهتمين بالتصوير، حتى الأدبُ الذي أساسه الكلمة والحرف تبدَّل وتغيَّر، فصار طريقُ الكاتب إلى الشهرة هو ما يحويه حسابه من صور مع فلان المشهور، وفلان المعروف، ودُور النشر نفسها تفتح أبوابها وذراعيها للكاتب المشهور، بغض النظر عن جودة أعماله، إلاَّ من رحم الله.
لهذا يلجأ الكاتب المبتدئ، أو المطمور بمعنى أصح، إلى أن تكون له صورةٌ مع المشهور فلان الفلاني، يضعها في صفحته في مواقع التواصل، فيجذب انتباه متابعيه ليصعد إلى مصافِّ المشهورين.
نتحدث هنا عن الكاتب بالخصوص، بحكم محور مقالتنا اليوم، وينطبق هذا على من سواه في مجالات أخرى.
لسنا ضد التصوير طبعاً، فهو من المسلَّمات به، ومن لا ينتهجه فلن يصل، وإذا وصل فلن يصل سريعاً، لكنَّ الذكي هو من يعرف كيف يوظِّف هذه الصور كي تصنع له الشهرة المناسبة التي تليق به وبوضعه الثقافي، فصورتك مع كاتب مشهور له متابعون ومعجبون، تجعل (فانزاته) إذا رأوها يلتفتون إليك، فإذا التفتوا إليك تابعوك، وإذا كثر متابعوك صرت مشهوراً.. مجرد أن تكون في صورة مع كاتبهم المقدَّس فأنت مقدَّس بدورك، فإذا كانت بينك وبين هذا المشهور علاقة فإن قداستك ستزيد.. إذن كن ذكيًّا، لكن اجعل المتابعين ينجذبون إلى إنجازاتك أنت، وليس فقط إلى الصورة وحدها.
ثم دعنا أولاً نتوقف أمام أولئك الذين لا يلتقطون الصور مع المشاهير حين يلتقون بهم؛ يكتفون باللقاء، بمصافحتهم، ببعض الحوارات معهم، ثم ”إلى اللقاء“، دون توثيقٍ لهذه اللحظة الفارقة التي يحلم بها الكثيرون.
هؤلاء لهم وجهة نظر، يرون أن عدم التقاط الصور مع المشاهير خيارٌ غير سيء على الإطلاق.
على الكاتب أن يُعرف لدى متابعيه أنه (صانع أدب)، وليس (الذي يظهر مع المشاهير)، تخيَّل هذا اللقب كيف يمكن أن يكون تأثيره سلبيًّا على الكاتب، فمِن القوة أن يشتهر بسبب كتبه وفكره وإنجازاته، على أن يشتهر بسبب صورته مع فلان وفلان.
ستُكسبنا الصورةُ شهرةً، لكنها شهرة تشبه الفقاعة، لن تلبث أن تنفجر حين يقرأ الناس أعمالنا ويقارنونها بفلان الذي صوَّرنا معه.. إن متابعينا قراءٌ ومثقفون، وهؤلاء نخبةٌ يملكون أن يميزوا ما بين الصورةِ التي تصنع شهرةً وظهوراً، والصورةِ التي تصنع قيمة؛ لذلك من الأجدر أن نصنع قيمتنا من باب أولى، بدلاً من أن نصنع ظهوراً وشهرةً مؤقتين، وليدرك الكاتبُ أنه لن يدخل التاريخ لأنه صوَّر مع فلان، بل سيدخل لأنه صنع كذا وكذا، في كتبه، أو في مقالاته وشعره، وكتاباته عموماً، هل تعلم كم كاتباً تألق في عالم السوشيال ميديا ثم اختفى؟ هذا لأنه باع بعض الصور، ونسي أن يروِّج لنفسه باعتباره كاتباً له قلم.
إن للكاتب أعماله التي ترفع من مستواه وتخلِّد ذكراه، فلا يسعَ إلى أن يكون مجرد صورة حين يستطيع أن يصير ضوءاً يُرى من بعيد، ولا يسعَ إلى أن يكون الكاتبَ الذي أعطاه الآخرون قيمته حين يستطيع أن يصنع قيمته بنفسه، إن الأدب يُقرأ بالأفكار لا بالصور، الصورُ عابرةٌ وستتراكم عليها الكثير من الصور الأخرى في مواقع التواصل.
وأما إذا التقينا بأحد المشاهير، فأفضلَ مِن أن نحصل على صورة معه، أن نجالسه جلسة حوارية ثقافية، نستفيد من خبرته، وقد نتبادل أرقام الهواتف إن أتيح ذلك، ويستمر بينننا التواصل.. ثم إذا عدنا إلى منازلنا بعد اللقاء، جميلٌ أن نكتب مقالاً أو منشوراً حول هذا اللقاء، هنا سنظهر معاً في صورةٍ عبر وسائل التواصل، ربما ليست صورة فوتوجرافية، لكنها صورة ثقافية في مقالة راقية لها معنى عظيم، وسيشعر المشهور بالاعتزاز أكثر، وستترك المقالة فيه، وفي جمهوره أيضاً، انطباعاً أقوى.
والآن، هل اقتنعت بكل هذا الكلام؟
سواء اقتنعت أو لم تقتنع، نعود هنا ونقلب الصفحة ونقول: التصوير مع الشخصيات المشهورة ليس خياراً خاطئاً، بل إن له منافعَ كثيرةً على الكاتب المغمور والمبتدئ، ومن الذكاء أن يقتنص الكاتب الفرصة عند لقاء مشهور من المشاهير ويلتقط معه صورة.
أنا بنفسي (كاتب هذه المقالة)، سبق أن التقطت الكثير من الصور مع بعض المشاهير، مع سبق الإصرار والترصد أيضاً، فإنَّ لي صورة مع الفنان صالح زعل، وصورة مع الكاتبة بشرى خلفان، وصورة مع الباحث البحريني الدكتور محمد السلمان، وصورة مع وزير الإعلام، معالي الدكتور عبد المنعم الحسني، وآخرين كُثُر، بل إنَّ أكثر منشور لاقى نجاحاً في صفحتي، من بين كل منشوراتي عامةً، هي صورتي مع الفنان صالح زعل.
لذلك لستُ هنا، في هذا المقال، ضد التقاط الصور مع المشاهير، رغم أنني - بالمقابل - حظيت بفرص كثيرة كي آخذ صوراً مع مشاهير آخرين كُثُر، لكنني لم أتقدم خطوة واحدة لهذا، ففي ورشة البوكر التي شاركتُ فيها مع الدكتور محمد علوان، والدكتورة جوخة الحارثي، ومجموعة من عمالقة الأدب الروائي العربي، التقطَ الجميعُ لأنفسهم صوراً متفرقة وجماعية، وحدي أنا بقيت بعيداً لم ألتقط ولا صورة واحدة، رغم ما جمعني بهم من علاقة طويلة طيبة، امتدَّت إلى لحظة كتابة هذه السطور، والتقيت بالفنان الإماراتي عبد الله زيد، الفنان الذي نحبه جميعاً، وبقوة، واكتفيت أن صافحته دون أن ألتقط معه صورة، وكذلك الفنان الكويتي محمد المنصور، والمذيعة القديرة كلثم الزدجالية (ماما كلثم)، والمذيعة منى محفوظ المنذري، والكاتب البحريني اللامع حسن مدن، وأستاذنا الرائع أحمد الفلاحي، وآخرين كثر، التقيت بهم أكثر من مرة دون أن ألتقط معهم صورة واحدة، بعضهم تنزَّهنا معاً في جولة بحرية، كالدكتورة كلثم، وآخرون في رحلة جبلية، كأستاذنا أحمد الفلاحي، وآخرون سافرنا معاً من وإلى الإمارات، كالدكتور حسن مدن.
لم ألتقط معهم صوراً، ليس تقليلاً من شأنهم، بل على العكس، هم قامات لها وزنها، لكن طبيعتي وفكرتي عن التقاط الصور لم تتوافق مع هذا الأمر، ليس مع المشاهير فقط، ولكن حتى مع الأهل والأصدقاء والمعارف، وأسرتي كذلك، ففي أسفارنا العائلية الجميعُ يعودون بصورٍ في هواتفهم، إلاَّ أنا أعود خالي الوفاض، لا سليفي مع نفسي، ولا مع الآخرين، إلاَّ فيما ندر.
ثم إنني لا أجيد الابتسام جيداً، وهذه نقطة مهمة، وقد أسهبتُ في الكلام عنها في كتاب سأنشره قريباً بإذن الله، يتحدث عن سيرتي الذاتية.
الخلاصة أنني لا ألتقط الصور مع الآخرين عادةً، لكنني بالمقابل لا أرفض الفكرة، بل أراها خطوة إيجابية، ولم يسبق لي أن رفضت تصويراً طُلب مني قط، سواء من قارئ أو زميل، خاصة حين يكون للصور مناسبة، كأن يهديني الكاتب كتاباً من كتبه، أو أهديه أنا كتاباً من كتبي.. إنما يحتاج الأمر إلى ضبط، وهذه المقالة هدفها إرساء هذه الضوابط التي سنتحدث عنها في السطور التالية.
التقيتَ بأحد المشاهير وتريد أن تلتقط معه صورة؟ هذا حقٌّ مشروعٌ كما قلنا، بل فكرةٌ تُحمد عليها، إنما من الخطأ أن يُشْهِرَ الواحدُ منا كاميرته في وجه الرجل ويلتقط الصورة مباشرة، من الواجبِ والاحترامِ أن يكون هناك استئذان، لعلَّ هذا المشهور يرفض، لأي سبب من الأسباب، وقد يتأذى من التصوير، فالأجدر أن نستأذن، بل وقبل أن نستأذن من الأفضل أن ننظر في حال المشهور، إن كان مستعجلاً أو مشغولاً، أو ربما كان في لحظة لا تسمح له بالتصوير، يأكل في مطعم مثلاً، هذا لا يليق تصويره بتاتاً، وفي حال رفض علينا أن نحترم رغبته، دون إلحاح، ولا حتى السؤال عن السبب.. أن نكون لبقين، هذا هو المطلوب.
استأذنا؟ وافق الرجل؟.. ممتاز، لنجهِّز كاميرتنا الآن.
جودة الصورة مهمة جدًّا، فهي واجهة لكلينا، لذلك من الأفضل أن نطلب من شخص ثالث أن يقوم بالتصوير، ولكن لا بأس من أن نلتقط ”سيلفي“ بأنفسنا، ولأن المشاهير يحبون أن يظهروا بالمظهر المناسب، لذلك من الأجدر أن نختار المكان المناسب والإضاءة المناسبة، ولنتجنب الخلفية المبهرجة، بل كلما كانت الخلفية بسيطة كلما كان أفضل، حتى إذا رأى الناسُ الصورة ركزوا على من فيها، لا على ما فيها.
التقطنا الصورة؟ جيد جدًّا، ما الخطة الآن؟ ما الذي سنفعله بهذه الصورة؟
هناك ثلاثة خيارات متاحة وبديهية؛ إما أن نحتفظ بالصورة للذكرى، وإما أن نتباهى بها.. والخيار الثالث أن ننشر الصورة في حساباتنا في مواقع التواصل، وهو الخيار الأصوب طبعاً.
ثم حتى لو كانت الصورة التي التقطناها سيئة (ولسنا كلنا مصورين محترفين)، فإنَّ الكلام الذي سنكتبه تحت الصورة سيجعلها جميلة، لكن أن يتباهى المرء تباهياً فارغاً، هذا يزيد الصورة سوءاً، بل نجمَّل في الكلام ونكتب ما يليق بشخصيةٍ مشهورةٍ كالذي معنا الآن.. لا نكتب مثلاً: «انظروا من قابلت، ومن هذا الذي في الصورة معي»، بل نجعلها صورة ثقافية؛ نربطها باللقاء الذي جرى بيننا، ونوضِّح لمتابعينا كم استفدنا من هذا اللقاء، وأن هذا المشهور محترم، أو لبق، أو واسع الثقافة، ولا بأس أن نكتب بعضاً من أقواله التي قالها في لقائنا معه.
ننشر بتواضع، ولنجعل الرجل يشعر حين يقرأ ما كتبنا عنه أننا فخورون به وبهذا اللقاء، وأننا لم نلتقط الصورة من أجل الافتخار والزهو فقط، ولا نُشعره أن صورته كانت مجرد سلعة نتاجر بها ونسوِّق أنفسنا من خلالها، بل نجعله يسعد أنه قابلنا، تماماً كما سعدنا نحن بهذا اللقاء.
وفي الختام؛ لنتفق على أن التصوير بحد ذاته تقنية رائعة، غير أننا نحن من يجعله نوراً حين نسعى إليه باعتباره جسراً، أو نجعله ظلاماً حين يكون هو الغاية مجرَّدة.
والآن، هل تمانع أن نلتقط صورة؟
التعليقات ()