الثقافة، بمعناها المادي، ليست درجة علمية كالأستاذية والدكتوراة، وليست درجة تعليمية يحصل عليها المرء فيتباهى بها، إنما هي صفة شخصية فردية، مستقلة عن محيطه، يتصف بها الفرد فتظهر في سلوكه.. أقول ”مستقلة عن محيطه“ وأعني بها عدم التبعية، وليس الانعزال عن المجتمع والتقوقع بعيداً عن الناس.
والثقافةُ شخصيةٌ فكريةٌ بالدرجة الأولى، تؤثر على سلوك المرء أولاً قبل كلامه.. أما المبحر في حديثه في كل ميدان وفي كل مجال، الذي كلما حاورته انفجرت ينابيعه تبلل المحيطين به، فهذه ”ثرثرة“ ليست إلاَّ، تُشبع رغبة دفينة يريد إظهارها، أو عقدة نقص يسعى لنفيها.
مناسبةُ مقالي هذا أنني التقيت في معرض الشارقة للكتاب قبل أيام بالرائع، الدكتور حسن مدن، لم يكن اللقاءَ الأولَ بالطبع، إذ سبق أن التقيته في مطار الشارقة عام 2019م، وسافرنا معاً إلى مسندم، وهناك ألقى علينا درره في محاضرة بعنوان ”سيرة المكان“.. أقول هذا من باب الفخر طبعاً أنني صحبت هذه القامة العظيمة - الثقافية من جانبٍ، والإنسانية من جانبٍ آخر - في تلك الرحلة الجميلة.
الشاهد من كل هذا أن حسن مدن له طابع ثقافي متميز، من النوع الذي يكون معه السؤالُ أطولَ من الإجابة، إذ أنت متحمس في محادثته، تسأله وتُسهب وتُطيل في سؤالك، ثم يأتي هو ويعطيك كلمة مختصرة أو كلمتين، تقولان أكثر مما تحويا من حروف، كأنه الساحر الذي يطفئ النار بلمسة يدٍ بسيطة لا أكثر.
عن هذا اللون من المثقفين نتحدث، الذين لا يعلِّقون في كلامهم إلاَّ بما يلزم التعليق، هذا يتيح لهم أن يستمعوا أكثر، فإذا استمعوا زادت حصيلتهم الفكرية، فازدادت ثقافتهم، لا ذلك المثقف الذي يتحدث أكثر فيخرج من المحاورة بلا زاد ولا فائدة لنفسه، قد يجعل الآخرين يفهمونه لكنه لا يفهمهم، يعرفون ثقافته وهو جاهل عن ثقافتهم.. كان حسن مدن يسأل أكثر مما يجيب.
هنالك جلسات رسمية يمكن للمثقف فيها أن يبحر كيفما شاء في كلامه، بل مطلوبٌ منه أن يفعل بإسهاب؛ كالمحاضرات والندوات والجلسات الرسمية، وفي مقالاته وكتبه، أَسهِب أكثر تُبدِع أكثر.. على أننا نصف هنا حال المثقف في حواراته العادية؛ في الشارع، أو في الطرقات، أو بين أرفف معارض الكتاب حين يلتقي بالناس البسطاء، هنا حاول ألاَّ تُظهر نفسك مثقفاً أكثر مما يجب.
الناس يحبون أن يُستمع إليهم كما يحبون أن يستمعوا إلى الآخرين، ومهما بدو بسطاء في فكرهم فإنهم يحترمون هذا الفكرَ البسيطَ الذي يملكونه، ويطلبون من الآخرين أن يحترموه كذلك، وأجلُّ شكلٍ من أشكال هذا الاحترام أن نستمع إليهم، حتى وإن بدا هذا الفكرُ مناقضاً لأفكارنا، وربما مناقضاً لمبادئنا.
المثقفون الذين نتحدث عنهم هنا، يستمعون إلى الآخرين كذلك، لكنه استماعٌ لحظي، كلمة أو كلمتين ثم يمسكون زمام الأمور ليتحدثوا ويُسهبوا، يصيرون هم العالمين بكلِّ شيء، المفتين في كل قضية، الناصحين في كل أمر.. لا نقول إن هذا يُنفر الناس من حولهم، بل ربما على العكس، بعض الناس يحبون أن يكونوا مستمعين إلى مفكرين ناضجين، إنما نُعطي لكلِّ حقٍّ حقَّه، ولا نتجاوز الأمور حتى لا يختلط الأمر على الناس بين معنى الثقافة ومعنى التخصص، ولا بين معنى الجلسات الودية ومعنى الجلسات الرسمية، ففي جلسات الود نحن نُظهر أنفسنا أكثر من فكرنا، إن الحوارات في الأصل مقايضةُ فكرٍ مقابل فكر، تبادلُ معرفة، وهذا يتطلب من المثقف، مهما بلغت قوة ثقافته، أن يتجاوز عن بعض التفاصيل في حواراته العامة.
في كتابه (رحلتي الفكرية) يقول عبد الوهاب المسيري: «النسيان - وليس التذكر - هو الذي يصنع المثقف»، ويقول: «الرؤية الكلِّية بالضرورة تعني استبعاد/ نسيان بعض التفاصيل».
الثقافةُ كرمٌ، لكن أحياناً حينما نكون كرماء في ثقافتنا أكثر مما يجب، يُفضي هذا الكرمُ إلى أن نغدو بخلاء في احترام الآخر، بخلاء في الاستماع إلى الآخر، بخلاء في تقديرنا لفكر الآخر، وهذا يلغي الكرم الأول للثقافة.
التعليقات ()