عنونتُ مقالي بهذا القول المشهور؛ فجذور الشجر في الغالب مُرة، ولكنها مع مرور الزمان تنمو شجرا مباركا يؤتي أكله طيبا حيثما كان ويكون.
كذلك هي تربية الأبناء تحتاج من الجهد الكثير، ومن الصبرِ والحلمِ سعةٌ حتى تشب سواعدهم، ويظهروا على ساحات مجتمعاتهم بانين، وحاملي المسؤولية، وقائمين بسنة الحياة في تكوين الأسر؛ بأن يكونوا خلفا لآبائهم؛ متجملين بأخلاقهم السامية وسائرين عليها.
أبدأ مقالي بهذا القول المأثور الذي استوقفني؛ لمعانيه العظيمة... وهو: «أن نزرع بذور القوة في أطفالنا أسهلُ من أن نداوي رجالاً محطمين».
هذه العبارة تحمل الكم الهائل من معاني التربية الواعية، والسابرة للخصائص النفسية والاجتماعية والسلوكية للأبناء، وإنها تدعونا إلى الاهتمام بالنشء منذ عهد اللبانة، ونعومة الأظافر؛ ليغدو نشأ قائما لا قاعدا، مقبلا لا مدبرا، صامدا لا متهالكا، مُعينا لا مُعانا.
علينا أن نعي بأن الأسرة بقائديها - الأب والأم - مسؤلان مسؤولية أولية في تربية الأبناء وإعدادهم للمستقبل.
لقد عشنا في حداثة عمرنا مع آباء كان الدين والقدوة هما محركا التربية لديهم، لم يكن الوالدان هما المربيان فقط، بل إن الآباء من الجيران يتولون مسؤولية التربية معهم؛ فالعبادات المفروضة كان الأقران من أبناء الجيران يتعلمونها معا؛ فيتعلمون الصلاة جماعة مع الإمام الذي يسأل عنهم ويتابعهم حتى بعد تعلمها، وكذلك بالنسبة للفتيات ممن وصلن إلى سن تعلم الصلاة، تعلمهن امرأة واحدة، وتتابعهن في ذلك، ولكن في وقتنا الحاضر نجد من الأسر من لا يتابع أبناءه في أمر الصلاة.
كذلك لا يمكن للصبي أو الصبية التلفظ بكلام غير لائق وهو خارج المنزل، وإلا فالعاقبة وخيمة؛ فسيوبخ من قبل الآباء من الجيران، وسيحال الأمر كذلك إلى ولي الأمر فكلهم عيون وآذان تتابع التربية .
ولكن مهما كان، تظل الأسرة هي المحرك الأول للتربية، ونقطة البداية، والحضن المحتوي لتنشئة الحياة.
لقد كانت الأسرة قديما تنضح بالقيم والأخلاق، وما زالت بعض الأسر اليوم تسير على خطى الدين، والعرف الصحيح الذي يقره الشرع.
لكن هل ما زالت الأسر كلها الآن تسير على نهج الأسرة القديمة في التربية، وعلى المنهج القويم، أم أن هناك معكِّرات تعكِّر مقومات التربية السليمة، وتنزع شيئا من حق الأسرة في تربية أبنائها؟
إذا ما قارنا حال أسرة اليوم بالأسرة السابقة لها من الجيل الأقدم عنها، فإننا - لا ريب - سنجد هناك اختلافا كبيرا في التربية في أغلب الأسر الحديثة عما كانت عليه أسر آبائها وأجدادها، ولا بد أن نجد ثقبا في جدار التربية تنزف منه القيم التي تكالب عليها الكثير من محاربيها؛ ولأن التربية الآن باتت تتجاذبها الكثير من القنوات غير الهادفة.
كانت الأسرة الواحدة في السابق تجتمع على مائدة طعام واحدة، وأغلب الأسر تأكل مما ينتجه حقلهم أو حقول مجتمعهم، ومن حقول المجتمعات ذات العلاقات القديمة مع مجتمعهم إذا ما توسعنا في ذلك، ولمأدبة الطعام آدابها القبلية والبعدية، أما الآن فتزدحم الموائد بصنوف من الطعام الضار التي تسبب لأبنائنا الكثير من الأمراض، إضافة إلى الحلويات التي لا ينتهي الطلب عليها سواء في الوجبات الرئيسية أو الوجبات الخفيفة كما يقولون، وعلى ظني بأنها ليست بالخفيفة؛ لأنها وجباتٌ الكثيرُ منها ذو سعرات حرارية كبيرة ومشبعة بالدهون، وستتسبب على المدى الطويل بالكثير من الأمراض؛ منها أمراض القلب والشرايين والسمنة المفرطة وهشاشة العظام والإدمان ومشاكل في الجهاز الهضمي، وسينشأ على إثر ذلك مجتمع غير قادر على البناء ومواصلة الحياة السليمة؛ فالمرض وتراجع اللياقة الصحية يُنتج شباباً عالةً على مجتمعهم.
كذلك النظافة أمر بديهي، وما زال الأمر به موجودا، وربما على شكل أفضل عما كان عليه سابقا، وأخص بالنظافة هنا الغسل المسنون الذي بات القليل منا يطبقه ويعلمه لأبنائه كغسل العيدين، وغسل يوم الجمعة، متى يكون وما هيأته، فبعض الأسر تعلمه لأبنائها بكل ما له وما تأتى منه، والبعض تعلمهم إياه بعموم شكله لا بتفاصيله، وبوجهه الواحد لا بوجوهه المتعددة المرتبطة بحال الزمان والمكان، ولا ننسى نظافة المكان والحيز الوجودي؛ فهناك من يهتم بيئته ويزيدها جمالا على جمالها، وهناك من كأن الأمر لا يعنيه.
كذلك الزي والملبس، نرى الكثير منهم يجري وراء الموضة والتقاليع التي لا تنسجم مع عاداتنا وتقاليدنا، حتى باتت هوية الملبس التي تعبر عن الوطن الذي ينتمي إليه الفرد تبتعد شيئا فشيئا عن السمة الشكلية لزي البلد، سواء للذكور أو الإناث.
إن متابعة أمر الموضة بما يتماشى مع الهوية والأصول الثابتة لا يضر في ذلك، ولكن نعني بذلك الانسلاخ التام والظهور بمظهر بعيد عن العروبة والدين الإسلامي والعرف الاجتماعي المتعارف عليه؛ لأن بهذا ستختفي هذه الهوية شيئا فشيئا.
أيضا لو ركزنا وألقينا النظر على زاوية أخرى، وهي الأخلاق، سنلاحظ تغيرا ملحوظا، وتغيرا يأخذ بالأخلاق إلى هوة سحيقة مخيفة تنذر بحلول مشاكل اجتماعية، وإطاحة بالبنى الأخلاقية، وسينشأ عن ذلك تفكك أسري، ولن يقدر الأبناء على تحمل دور رب الأسرة في قادم حياتهم.
إن الوالدين مشغولان عن تربية أبنائهم - إلا من رحم ربي - بسبب عوامل عديدة، ولكن مهما كان، فعلى الوالدين أن يحنُّوا على أبنائهم حنو العطف برفعة الكرامة؛ فهذا سيغرس بذرة البر، التي ستؤتي أكلها مستقبلا بالبر بهم، وسيصلح حال المجتمع بهم، وقد قال الغزالي (رحمه الله) مبينًا هذا المعنى: «يعينهم على بره، ولا يكلفهم من البر فوق طاقتهم، ولا يلح عليهم وقت ضجرهم، ولا يمنعهم من طاعة ربهم، ولا يمنن عليهم بتربيتهم».
كذلك وسائل اللعب لا تُعِدُّهُم ليكونوا آباء، بل تصيبهم بالتوحد، وبالكثير من المشاكل الصحية والاجتماعية؛ فأصبح اللعب بالإلكترونيات هو الطاغي على الساحة، وتبث هذه الألعاب أفكارا سامة بشكل متواتر، سيظهر أثره السيء شيئا فشيئا، على عكس ما كان عليه الآباء قديماً؛ فهم يلعبون أدوارهم المستقبلية؛ فألعابهم تتمثل في أنهم يحيكون قصصا هم أبطالها، ويقومون بدور الأب والأم والإخوة والجيران، ويبنون بيوت اللعب بما يتسنى لهم من المواد البسيطة للعبهم، كذلك يتفاعلون مع عالمهم المحيط من منطلقات أصالتهم، على عكس الأبناء في هذا الزمان، يتفاعلون مع محيطهم الخارجي مع تغييب الكثير من القيم الدينية والاجتماعية، وحتى الفكرية التي بدأت بمحوها أفكارٌ هادمة.
في السابق كان الوالدان يقومان بتعريف الأبناء بكبار السن من الأقارب البعيدين أو القريبين؛ فصِلة القربى من الأولويات التي يتربى عليها الأبناء، أما الآن فقد باتت الزيارات محدودة، وإن وجدت فللأقارب من الدرجة الأولى.
الأحرى بالمسلم أن يربي أبناءه بما تربى عليه من القيم والأصول الاجتماعية، ويجعلها مرتكزَ التربية لديه، مع فتح المجال لهم بما يتوافق مع سمات عصرهم الجديد؛ لتكون الجذور الأصيلة هي منطلق التربية، مع فتح عقولهم على الآفاق الجديدة والعصرية، وذلك بمتابعةٍ منه متابعةَ إرشادٍ وتوجيه.
التعليقات ()