تفَقُّد هواتفنا المحمولة هو أول ما نفعله عادةً بعد الاستيقاظ من النوم، بُغية معرفة الوقت، لكن ينتهي بنا الأمر في أحيان كثيرة إلى استعراضِ جميع مواقع التواصل، والردِّ على كل صديق وغريب، والثناءِ على مجموعةٍ من الصور وذمِّ أخرى، وتأييدِ فكرةٍ ومعارضةِ رأي، وعن أذهاننا يغيب كليًّا السببُ الرئيسُ خلف تفقدنا لهواتفنا! سنعرض اليوم عدداً من سلبيات الإبحار في عالم الشبكة العنكبوتية دون اتباع إجراءات السلامة اللازمة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه عالم ليس شراً كله.
لن نسلِّط الضوء على الهاتف المحمول، الجهاز الجامد في حقيقته، بل على قدراته اللامحدودة عند تعاونه مع الشبكة العنكبوتية أو ما يُعرف بالإنترنت، هنا تتشعب الطرق الافتراضية في فضائه، تتعدد وتتقاطع، وتخرج عن السيطرة، تتفرع وتنتشر، وقد نجد أنفسنا حينها في قلبها، وأمام مفترق طريق يتكون من عشرات الآلاف من المسارات التي تؤدي إلى وجهات مختلفة، وتلك الوجهات نفسها تأخذنا إلى المزيد من الطرق المتفرعة الأخرى، وهكذا، متاهة هائلة لها بداية واضحة ساطعة، ولكن النهاية مشوشة مجهولة، وغير متوقعة في أحيان كثيرة.
إن شُغل مواقع التواصل الشاغل هو تكبيلنا أمام هواتفنا، وجعل أعيننا بالكاد تفارق شاشتها الصغيرة، ومنح إبهامنا وظيفة أساسية، هي تقليب الصور والمرئيات إلى الأعلى أو إلى الأسفل، إلى الأمام أو إلى الخلف، في سجننا الإرادي أو اللا إرادي، ملامح وجوهنا تتغيَّر وتتقلب وتتخبط في بحر من العواطف والمشاعر، نضحك ثم نبكي، نعبس ثم نبتسم، نشمئز وبعدها نندهش، نتضايق ثم نستغرب، هكذا باستمرار وتكرار، عقارب الساعة تدور، ومهما فعلنا لن نستطيع استرداد شيء من الوقت المهدور.
وقد نتفاجأ بأحدهم في مواقع التواصل يقفز أمام وجوهنا، معترضاً طريقنا، ومن دون أي مُقدِّمات يبدأ في حشو أفواهنا وعقولنا بمعلومات لا نهائية في مختلف المجالات، الدينية والفلسفية والاقتصادية والتاريخية والإنسانية والفنية والأدبية والجغرافية والسياسية والنفسية والفيزيائية والكيميائية، نُقاومه، ولكنه يُتابع ضخ المعلومات بلا هوادة، اللقمة بعد اللقمة في علوم الأرض والفضاء والرياضيات والزراعة والهندسة والتجارة والتكنولوجيا، نوشك على الاختناق، إلا أنه لا يبالي، ويستمر في علوم الصحافة والاتصالات والقانون والطب، نتمكن من الإفلات بأعجوبة وعقولنا مثقَلة بمعلومات تجعلنا نتوهم بطريقة ما أننا صرنا مثقفين من الدرجة الأولى، لنكتشف لاحقاً أن كل ما تلقّيناه كان هذياناً ولغواً، ومعلومات حصل عليها ذلك الشخص من اجتهاداته الشخصية البحتة، وبرعاية جميع بهارات العالم.
وقد تصلنا رسالة من صديق محتواها أنه حصل أخيراً على ترقية طال انتظارها، أو رسالة عن انتقالٍ قريبٍ إلى منزل حديث، أو عن احتفال زميل بمولود جديد، فلا تسعنا الدنيا من شدة الفرح، فننشغل بكتابة ألطف عبارات التهنئة المُنمّقة وأشدها عذوبة، مع إضافة صور أو رموز تعبيرية ملائمة، وننهمك كثيراً في اختيار الرموز إلى درجة نسياننا لأنفسنا خلف مقود سيارتنا، نُرسل وروداً ووجهاً سعيداً، ينقلب إلى عابس إن تعرضنا لحادث، أو عرَّضنا حياة الآخرين للخطر.
تظهر أمامنا رغماً عنا صور لأشخاص متأنقين؛ رجل في غاية الوسامة، وامرأة في قمة الإبهار، بثياب فاخرة ومجوهرات راقية، لا نملك إلا أن نرفع المرآة لمقارنة أنفسنا بهم، والمباشرة في تعديل الشَّعر والحواجب، الأجفان والعيون، الأنف والخدين، الشفتين والذقن، وكل ما يأتي بعدهامن أعضاء، حتى أخمص القدمين، ومن ثَم نتفقّد إجمالي رصيد حساباتنا البنكية.
وبعد كل تلك التغييرات التي كلَّفتنا جهداً وثروة وتنازلات، نلتقط لأنفسنا صورة لمشاركتها مع العالم، عدد متابعي صفحتنا يفوق العشرة آلاف، وصورتنا لم تحصل إلا على عشر تفضيلات، شعرنا بها وكأنها عشر مجامَلات، لا كلمات مديح ولا تعليقات انبهار، ننتظر الحصول على شيء من الاهتمام، ويمضي النهار، فنرتمي على أسرَّتنا بحزن وبلا حراك، وكأن ضغط الآخرين على زر التفضيلات هو ضخ للأوكسجين في أجسادنا، وانقطاعهم عن ذلك لا يعني سوى توقف الحياة.
تتغيَّر معايير الجمال ولا أسرع من تبدل الذوق السائد والموضة، وهكذا نعود إلى غرفة العمليات لإجراء اللازم، مما يعني مزيدًا من العزلة والقلق والاكتئاب، وكان من المفترض بدلا من كل ذلك أن نُجري أهم عملية على الإطلاق، وهي إنعاش الرضا في قلوبنا، هي مجانية تماماً، وآمنة، وبلا أي آثار جانبية أو مضاعفات أو أخطار، فالخير كما قيل كلّه في الرضا، ولا باعثَ للرضا كقول رسولنا الكريم: ”إن الله لا ينظُر إلى أجسامكم، ولا إلى صُوَرِكُم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم“.
ومع فتور ردود الفعل على كل ما ننشر قد نشعر بالوحدة، وفي الوقت نفسه قد نشعر أحياناً بالراحة، إذ إننا أخيراً وجدنا المكان الذي بإمكاننا اتخاذه ملاذاً من صخب الدنيا من حولنا، فنبدأ في مشاركة معلوماتنا الشخصية، وحالاتنا النفسية، وصورنا، وصور أفراد عائلاتنا، ونجد ألاّ ضَير في ذلك، فتغيب كلياً عن أذهاننا حقيقة مشرقة كالشمس، هي أن عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي اليوم يتجاوز الخمسة مليار شخص، بحسب تقرير نشرته شركة ”ستاتيستا“ المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين؛ الرقم خمسة وعلى يمينه من الأصفار تسعة! والآن، هل من الآمن اعتبار أنفسنا منعزلين كلما دخلنا إلى ذلك الفضاء الواسع الشاسع المكتظ بالبشر؟
وهناك في أحد مواقع التواصل قد يكتب أحدهم عن تكوّن سُحب ممطرة في منطقة ما، ويؤيد شخص آخر كلامه مضيفاً أن الأمطار قد بدأت في الهطول، ليُعلن ثالثٌ عن نزول بَرَد أيضاً، بَرَد بحجم كرة الطاولة، فيكتب آخر، بل بحجم كرة الجولف، فيعترض آخر إنما هي بحجم كرة التنس، ويقفز آخر إلى المحادثة ليكتب، بل بحجم كرة البلياردو، ويتدخّل آخر ويكتب، بل بحجم كرة البولينج، بل كرة القدم، وينضم إلى المحادثة شخص جديد ليكتب أن البرَد لا بحجم هذا ولا ذاك، بل بحجم كرة السلة. لكن الحقيقة أن المتوجه إلى تلك المنطقة لن يجد هناك سوى عائلة من الزواحف المنشغلة بأخذ حمام شمسي.
وقد تصل إلينا رسالة إعجاب أنيقة، بكلمات رقيقة، تفوح من بين حروفها روائح المسك والعنبر بالرغم من كونها إلكترونية، فنرد على صاحبها ونشكره على مشاعره النبيلة، الرسائل من الطرف الأول لا تنقطع بعد ذلك، بل تتزايد وتستمر، كانت أسبوعية فصارت يومية، نرد على عدد منها وننشغل عن الرد على العدد الآخر، وهكذا، إلى أن نصل إلى مرحلةٍ نرد فيها على جميع رسائل الطرف الأول، وبهذا تنتهي المرحلة الأولى، وندخل في المرحلة الثانية التي تجعلنا نطمئن فيها إلى ذلك الشخص، وقد نثق به، عندها سيُلمِّح عن رغبته في تبادل المزيد من الحديث، لكن ليس على أرض الشبكة العنكبوتية بل على أرض الواقع، وقد نتردد للحظة، لكننا في النهاية نرضخ ونلتقي، لنكتشف أن ذلك المعجب المهووس لم يكن سوى صديق نعرفه مما يعني وقوعنا ضحية لأحد مقالبه، وأن نكتشف أن صاحب تلك الرسائل صديق، خيرٌ من أن نكتشف أن غفلتنا قد أوصلتنا، وجهاً لوجه، أمام شخص مُحتال ذي سوابق، أو مجرم، أو مريض أخلاقي، أو حتى جني.
عالم الشبكة العنكبوتية ليس شراً كله، فقد حقق ما لم يكن يحلم به الأقدمون، وذلك بربطه بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، مما سهَّل تبادل الأخبار والثقافات، كما أنه قام بتوفير الجهد والمال الذي كان يتطلبه شد الرحال لزيارة صديق أو قريب، أو لطلب شيء من العلوم، وجعل التواصل مع الأهل والأصدقاء في غاية السهولة واليُسر، ووفَّر فرصاً للعمل والدراسة من المنزل، وفتح أبواب التعلُّم والتعليم في شتى المجالات، من مواقع موثوقة وأشخاص متخصصين، وسهّل عمليات التسوّق وإنجاز المعاملات، ووفر سبلاً عديدة للتسلية والترفيه.
وختاماً، تحدثنا عن الشبكة العنكبوتية ذات الوجهين؛ البارعة في توفير الوقت وسرقته معاً، الطافحة بالمعلومات المفيدة الموثوقة والمعلومات الباطلة العبثية، الخادمة لكل لذة، الجامعة بين الناس والمفرّقة بينهم، الجالبة لكل مسرة وحسرة، الشاغلة عقول الناس في كل يوم وليلة. وخلو وجهها الثاني من الشر لا يمنع من ضرورة توعية الأفراد دوريًّا حول أضرارها وأخطارها، رحلة توعية تبدأ من مرحلة الروضة وتستمر إلى جميع المراحل الدراسية التالية، وحتى الجامعة، توعية دورية جادة، مع كتيِّب ملائم لكل مرحلة، فالوقاية خير من العلاج.
التعليقات ()