أتذكر ذلك الصباح جيدًا.
اعتاد ذلك القط كل عصر تسلق حائط بيتي فيجلس فيه حتى قبيل المغرب يحدق في الفضاء أو فيّ أو ناحية ضوضاء العمال الذين يعملون في الجوار، حين لاحظت تكرار زياراته خصصتُ بقعة فوق السور له أضع فيها ماء وبعض الطعام. أصبح صديقًا مسائيًا ملازمًا لبيتي إلى حد أن غياباته تكون ملحوظة مهما بلغ حجم اشتغالي وانهماكي بأعمالي، إلى أن حدث أن مرت بضعة أيام دون أن يعاود الظهور، خطر ببالي أنه وجد صديقًا آخر أو أسس عائلة في مكانٍ ليس بقريب.
لكن في صباح ذلك اليوم وبينما أقطع الطريق بسيارتي خارج البيت رأيتُ بقايا جثته على قارعة الطريق، دهسته سيارة ومضت، بدأتُ أدقق في لون الجلد، هل هو أم يشبهه؟ لستُ على يقين، لكنني وجدتُ دموعي تسيل من تلقاء نفسها ولم يكن بإمكاني إيقافها، ولم أحاول حتى.
سألتُ نفسي: لمَ تبكين الآن؟ ألا تلاحظين أنكِ أصبحتِ مؤخرًا تذرفين الدمع لأهون الأسباب؟
لم تكن ثمة إجابة قادمة من الداخل، كلانا كنا نبكي هذه المرة.
ربما لأنني اعتدت رفقته بينما أجلس في الحوش أكتب فصلًا في روايتي، أو أمارس بعض التمارين، بينما أعتني بالنباتات الصغيرة التي يعبث بها في مرات كثيرة.
كل ما قفز إلى ذهني هو الألم الذي اعتصر فؤادي وأنا أرى أشلاء القط مبعثرة هنا وهناك وأنني لن أراه مجددًا يحدق بتينك العينين الباردتين.
ثم تساءلتُ كثيرًا، كثيرًا جدًا، كيف يمكن لآدميَين عاشا معًا حلو الحياة ومرها، ضراءها وسراءها، أيامها المشرقة وتلك المعتمة، ونسجا بينهما عوالم ممتدة من الأحلام والرغبات والطموحات، وتقاسما الوجع تقاسُم الرغيف، أن يغرز أحدهما سكينًا في جسد الآخر، أو يسلبه روحه برصاصة مباغتة؟ أن يتسبب بمقتله شخصٌ كان أوج أمانه كله، وحصنه من بشاعة العالم وسخريته وأهواله؟
كيف يمكن لخلافٍ، أو مليون خلافٍ حتى، أن يحيل الإنسان فجأة إلى آلة قتل لا تكترث للشرائع ولا القوانين ولا العواقب؟ كيف يمكن أن نكره الذين نحبهم ليس إلى حد تمني الموت لهم فحسب، بل والسعي إلى أن يحصلوا على الموت بطرقٍ وحشية لا يمكن أن يتخيلها المنطق السليم ولا تقبلها فطرة الإنسان الطبيعية؟
حتى في الغابات، تلك التي لا تعترف إلا بشريعة البقاء للأقوى، لا يقتل فيها الغزال أخاه الغزال، ولا يفترس فيها النمر أخاه النمر، حتى في ذروة تكالبها على الإناث والمراعي، وفي أشد أيام جوعها وظمئها.
بين البشر، هذا يقتل زوجته، وهؤلاء يقتلون صديقهم، وأولئك يقتلون حبيباتهم لأنهن يرفضن الزواج منهم!
لماذا يصل هؤلاء بعيدًا إلى تلك الحدود من جهنم؟
لقد اجتهد متتبعو هذه الأخبار في تحليل هذه الجرائم، فتارة يعزونها إلى هشاشة الإيمان، وبعضهم الآخر إلى الأمراض النفسية، وهلم جرا..
لكنني أرى أن ما يقود حقًا إلى القتل بعد انتهاء العلاقات هو الفهم الكلي الخاطئ للعلاقات الإنسانية، والمتفشي بشكلٍ واسع النطاق حتى على صعيد المتعلمين، وتلك النظرة ضيقة الأفق إلى العلاقات باعتبارها ملكيات لا يحق أن ينازعنا فيها أحد حتى الطرف الآخر المنتفع من هذه الملكية، وعدم تقبل حقيقة أن هذه الروابط من الطبيعي أن تضعف ويصيبها الوهن في مرحلةٍ ما من مراحل تطورها، وقد تنتهي تمامًا كما ينتهي ويفنى أي شيء آخر في هذا الوجود. إن النظر إلى هذه الملكية بعين المسيطر المهيمن الذي له الكلمة العليا فيما يمكن أن ينال منها أو يعترضها، ورفض السماح بالرحيل حين لا تجدي الحلول المؤقتة نفعًا هو أمر يسود الكثير من العلاقات المعاصرة، فنرى على سبيل المثال تكالب المطلقين في المحاكم بعد الطلاق، كلٌ يشد ويجذب في الأبناء أيهم يزهو بانتصارٍ وهميٍ مخادع بفوزه بالحضانة، حتى وإن كانت هذه الحرب نتيجتها حتمية: ضياع وشتات الأبناء. بينما كان بالإمكان أن تنتهي الكثير من تلك العلاقات بحفظٍ للود وما حسُن من العِشرة، وذكر المناقب الطيبة والأيام الجميلة معًا، والانفصال بسلام، وتهيئة مناخ ما بعد الانفصال ليكون آمنًا وهادئًا لا يثير الزوابع والعواصف في حياة الأبناء.
لماذا يجب أن ينتهي الأمر بمؤامرات وخصومة عظيمة لا تنتهي إلى قيام الساعة؟
ما الخلل في أن يمر الأمر بسلام ويمضي كلٌ في طريقه؟
وعن وعود الزواج، لماذا إطلاق العهود والمواثيق التي لا ضمانة لتحققها على أرض الواقع؟ ولماذا ننهي حياة من أردناه شريكًا للعمر كله حين لا تفلح هذه الشراكة؟
أظن أن علماء الاجتماع مدعوون أكثر من غيرهم لدراسة أسباب مآل هذه العلاقات وكيف تصبح سُمِّية إلى هذا الحد؛ فالطبيب النفسي وجِهات القضاء هم الوجهة حين تقصم القشة ظهور تلك العلاقات وتفتك بها، لكن مسار تلك العلاقات وفلسفتها، المتوارثة والمكتسبة عن طريق الخبرات المباشرة ممن سبقونا ونعاشرهم، بحاجة إلى الكثير من الفحص والتمحيص، وخصوصا في ظل المتغيرات التي تطرأ على بُنية المجتمعات، التي غيّرت بشكل واضح من أدوار الأسرة وأفرادها، وتسيّد فيها الفكر الرأسمالي حيث ينغمس كل واحدٍ في حياته الخاصة، مشبعًا حاجاته ورغباته، ومنفصلًا عن واقع أسرته واحتياجاتها إلا في الحدود الدنيا في بعض الأحيان.
إن العامل المشترك الأكبر في جميع البيوت وجميع العلاقات أنها تسوء أحيانًا وتتحسن أحيانًا أخرى، يسودها الرخاء مرات ويجتاحها الضنك مرات أخرى، لا أحد يعيش حياة سعيدة كل يوم وكل الوقت مهما ضللت مواقع التواصل الاجتماعي الناس وأوهمتهم بعكس ذلك، ولذا فإن اللجوء للمقارنات والبحث عن النقائص والعيوب وتجاهل حسنات بعضنا وميزاتنا هو موت بطيء لهذه العلاقات، وانفصام عن الواقع، وشَرخ يستمر في التوسع في كل علاقة حتى ينتهي بها الأمر جامدة وباردة.. وأخيرًا ميتة.
هناك أشياء كثيرة لا تُرى، منها حجم تضحياتنا لنبقى متماسكين في داخلنا، فنُبقي عائلاتنا متماسكة، حجم الصراعات النفسية التي نخوضها لنخرج مبتسمين، تقتير الأب على نفسه لينعم أبناؤه بما تبقى من راتبه، تضحية الزوجة بالكثير من رغباتها لتبقى أسرتها متكورة بسعادة في ليلةٍ شتوية أمام دلة الشاي، ادخار الابن لبعض مصروفه ليستطيع لاحقًا أن يغطي بعض احتياجاته بدل اعتماده الكلي الدائم على والده، اقتصاص البنت ساعةً من وقتها لتساعد أمها في المنزل أو إخوتها في مذاكرتهم، ساعة ذات جمعة أو بعض ليلة تجتمع فيها الأسرة فيثرثرون حول أيامهم كيف تمضي ومخاوفهم كيف تكبر وتحدياتهم كيف يقهرونها، اعتذار بعد كلمة موجعة، قبلة بعد خصامٍ بارد، والكثير من خيوط الشبكة العملاقة التي تبقينا متصلين معًا.
فلماذا ننهي هذه الحياة بغير هذا القلب السليم؟ ما الذي سنكسبه حين نخسر كل شيء؟
إنها دعوة للعودة.
العودة إلى الإنسان فينا، ذلك الذي يحب بعدل، ويرحل بعدل، ولا يترك وراءه إلا رائحة الإنسان، الإنسان القادر على معالجة مشكلاته مهما بلغت حدتها؛ لأنه يعلم أن نهايته وحده المسؤول عنها، ومصيره وحده المتحكم فيه.
بيننا أشياء كثيرة لا تُرى، تقربنا أكثر مما تباعد بيننا، فلنفتش عنها ونأخذها معنا دومًا، حتى حين نعبر النهايات.
التعليقات ()