في أغسطس 2014. كنتُ أنهي إجراءات الوصول في مطار القاهرة، منتظرة امرأة تسبقني في الصف بدت لي أنها عمانية من هيئتها وعباءتها، جلستُ بعدها في مقاعد الانتظار فرأيتها تجلس قبالتي، حين سقطت عيناي عليها ابتسمت لي، تلك الابتسامة التي لا تخطئ طريقها إلى القلب أبدًا، وكأنها نكزت قلبي بأصابعها فأيقظت فيه عملاقًا نائمًا قفز بي إلى الكرسي المجاور لها، سلمتُ عليها وتجاذبنا أطراف الحديث فأخبرتني أنها ليلى حارب، مذيعة. قاطعتها فورًا: ماما ليلى؟ الصوت الإذاعي الذي كبر معنا وبنا؟
أومأت لي برأسها، فقلتُ لها: سعيدة أنني أراكِ بعيني هذه المرة، لا بأذني التي أصخت السمع لصوتك المتدفق عبر الأثير وكأنه جرسٌ سماوي أزلي الرنين.
ثم انتشيتُ فرحا أنها في طريقها إلى شرم الشيخ لحضور برنامج تدريبي وصادف أنني ذاهبة إلى ذات الوجهة.
من هناك بدأت استكشاف وجه جديد للإنسان، الإنسان الأفلاطوني في مدينته الفاضلة. فمنذ ذلك اليوم أصبحت ماما ليلى مقربة مني، استضافتني في حلقة إذاعية من برنامج أسرتي، فكان أول لقاءاتي بمحبوبتها الإذاعة، تلك التي أرخت على كفها ثلاثين عامًا من الأُنس والبهجة والانتماء، وفتحت لي ليلى بعدها نافذة إلى عالمها الذي أبهرني بجميع تجلياته، ومنحتني تلك الفرصة الثمينة لمشاركتها فرحها والأتراح.
زرتها ذات مرة وهي في أوج علاجها الكيماوي من مرض السرطان الذي غزا صدرها المفعم بالحب والحياة، ورأيتها منهمكة في حساباتٍ ما، سألتها: ماذا تفعلين؟ قالت: نجهز أنا وصديقاتي التبرعات التي سنأخذها إلى مكران، أحصر جميع أنواع المعونات العينية التي حصلنا عليها. سألتها مستنكرةً: هل سمح الطبيب بسفرك؟ قالت: لا، لكن يجب أن أذهب، هذا ما أعيش لأجله.
حدّقتُ طويلاً في وجهها متسائلة: إما أنها مجنونة، أو أنها قديسة!
ورغم أعمالها الخيرية الكثيرة داخل البلاد وخارجها إلا أنها لم تكن تكترث بأن يعرف أحد ما تفعله، وحده كان السكون ما يلفع أعمالها، لم توثق ولم تصور ولم تنشر ولم تخرج على مواقع التواصل الاجتماعي لتتباهى بما فعلت وتفعل وستظل تفعله حتى الرمق الأخير من حياتها.
ورغم كل هذه العظمة في عطاءاتها فأنا أعلم جيدا أن ليلى - رحمها الله - من الذين يؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وأنها كانت تعطي حتى في ذروة حاجتها لما تعطيه. مواقف كثيرة تعرفها الجارات أيضًا ولا أستطيع سردها الآن تُقدم نموذجًا عظيمًا لامرأة وجدت معنى الحياة في تسخير الوقت والنفس والجهد لخدمة المحتاجين، وكان بيتها مجلس علمٍ مفتوح، تلتقي فيه النساء لتدارس المعارف وتباحث العلوم، كانت تقول: لا أحمل معي الآن إلى قبري سوى ما أفعله، كل شيء آخر سأتركه ورائي، وما يبقى ورائي لا يشكل قيمة بالنسبة لي!
فلسفة قد تبدو محض ادعاءات، لكن ليلى حتى حينما كانت تمشي وحدها مثقلة عبر ردهة المستشفى لتلقي جرعة الكيماوي، وحتى حين لم يكن بإمكانها إعادة التيار الكهربائي المقطوع إلى بيتها، وبينما هي منغمسة في إعادة إعمار تلك البلاد العالق أهلها في نمط حياة بدائي غير صالح للحياة؛ مسجد تارة، آبار تارة أخرى، مدرسة لتعليم النساء تارة ثالثة، مصاحف وبطانيات والكثير من الضحكات وجرعة زائدة من الأمل، حتى مع كل ذلك، لم تكن ترى إلا عطاءاتها هذه وهي تُربِي حياتها وتطرح فيها البركة، في جسدها الذي قاوم السرطان بكل ما أوتي من ممانعة وقوة، في أطفالها الذين كانت لهم الأب والأم والأرض والسماء، في القلوب التي تهفو إليها من كل فجٍ عميق دون عناء، في البياض الشفيف الذي يلمسه المرء في روحها بينما تتحدث وتحكي وتضحك وتتألم.
ما كان يجعل أيام ليلى حارب مختلفة ليس كونها حياة مليئة بالترف والرخاء، ولم تأتها الدنيا خاضعة راكعة، كان عليها أن تحارب كل يوم وحدها، وتمنح الغارمين وأبناء السبيل والحزانى دافعًا للعيش وسببًا للتشبث بالأمل، ففي نهاية الأمر كذب القائل: فاقد الشيء لا يعطيه.
ففي مدرسة ليلى الخالدة، فاقد الشيء أعلم الناس بقدر وثمن ما فقده، وأكثرهم قدرة على التماسه من بين سراديب الحياة ليدل الآخرين عليه، وأعظمهم حرصًا على ألا يذوق الغير طعم مرارة فقدٍ مماثل.
ورغم أنها قد فتك بها فيروس كورونا وأودى بحياتها، لكنها لم تمت حقًا؛ فقد شيّدت وراءها بروجًا من الإنسانية التي غيّبت ملامحها مدنية اليوم، وعفّرت بكفيها عن وجه الحياة ترابًا أعمى العالم عن رؤية أجمل ما فيه: الإنسان القادر على مساعدة أخيه على تخطي أزماته ومعاناته، على إبعاد شبح الجوع عن فمه، وإزاحة غشاوة الجهل عن عينيه، على مداواة ما أمكن من جراحه، ومساعدته على تخطي أيامه الصعبة، على تفقد جيرانه وأهله، ومشاركة بعض ماله مع الناس الذين لا يجدون سبيلًا لاقتلاع أنفسهم من وحل الفقر، وأهم من هذا كله أن يشعر الفرد منا أنه ليس وحده في حلبة الحياة بكل ما فيها من صراع وتناقض وقفز وسقوط.
في ذكرى ليلى حارب التي رحلت عن عالمنا في يوليو ٢٠٢١، أدعو نفسي وأدعوكم لنحيي ليلى في داخلنا وفي خارجنا، وأن تبقى رسالتها في الحياة حية: الإنسان للإنسان.
اللهم ارحم ليلى رحمة واسعة، واجزها الفردوس، وتقبل كل ما فعلته سرًا وعلانية، خالصًا لوجهك الكريم.
التعليقات ()