حديثنا عن الماء يعني حديثاً عن الحياة لا عن الغرق، وحديثنا عن البحر يعني الرزقَ لا الموت، والحديث عن الطقس حديثٌ عن الجو الجميل والأمطار المنعشة والرياح اللطيفة لا عن الطوفان والأعاصير والزلازل.. فلماذا إذا تحدثنا عن الله كان حديثاً عن العقاب؟!
سألتني شهدٌ اليوم: «هل فعلاً الله سيعاقبنا؟».
ألجمني سؤالها لبرهة، متسائلاً عمَّن زرع في عقلها مثل هذا السؤال المخيف، وهي الطفلة التي بحاجة إلى أن تحب الله أكثر من حاجتها أن تتعلم معنى الخوف منه!
أجبتها بعد ثوانٍ من صمت: «بل سيحاسبنا».
فكرة العقاب فكرة كبيرة على طفلة، وربما علينا نحن كذلك، إذ هي كالكيِّ الذي نلجأ إليه كحلٍّ أخيرٍ في العلاج.
كثيرون منا، نحن البالغين الراشدين كبارَ السن، الفاهمين للحياة، الدارسين العلم، المثقفين العارفين، وربما المتفقهين في الدين كذلك، إذا رأينا عاصياً أو مذنباً أو مرتكبَ خطيئة أُصيب بنازلةٍ هدَّت قوته، وكارثةٍ مزقته، ومصيبةٍ أحالت بينه وبين سعادته وأهله.. أو منطقةً وبلداً كانت آمنة أصابها على حين غرَّةٍ طوفانٌ أو إعصارٌ أو فيضانٌ؛ صرنا مفتين وحكمنا أن هذا عقابٌ سماوي.
آيات الرحمة في القرآن كثيرة تشير إلى عظمة الله في رحمته التي وسعت كل شيء في السماوات السبع، وكل شيء في الأرضين السبع، والتي تسبق غضبه، فكيف بنا يكون حكمنا على المصائب أنها عقابٌ حكماً أوليًّا، قبل النظر في بقية الأحكام اللطيفة الأخرى؟ وفي الأثر أن أحد الصالحين قال: «لو خُيِّرتُ أن يحاسبني الله، أو تحاسبني أمي، لاخترتُ محاسبة الله».
إن المذنب إذا أُصيب بمصيبة، ما يدريك لعلَّها رحمة من السماء ليستفيق؟ أو لعلها لطفٌ من السماء ليمتنع المذنبُ عن ارتكاب معاصيه، ولو لبرهة، يتوقف فيها الرقيبُ العتيدُ في شماله عن كتابة المزيد من معاصيه؟! لماذا نحكم أنه عقاب وليس ابتلاءً، رغم أن الابتلاء هو الخيار الأول الذي يجب أن يتبادر إلى الأذهان؟!
تخبرني زوجتي أنها لا تحب مشاهدة القناة الفلانية، رغم أن القناة إسلامية مليئة بالمواعظ والحكم، تقول أنها قناة لا تتحدث إلا عن النار، وعن الله شديد العقاب، وعن عقوبة تارك الصلاة والسارق والكاذب و.. و.. و...، أين الرحمة التي هي صفة كبرى من صفات الله؟ أليس: [بشِّروا ولا تنفِّروا]؟
كثيرون منا إذا رأوا كاذباً أو فاسقاً قالوا: «سيعاقبه الله»، رغم أن العبارة الأصدق والأقرب إلى الحق هي: «سيحاسبه الله»، الحساب منزلة تسبق لا العقابَ فقط، إنما المغفرةَ كذلك، فالمغفرة أقرب في حق الله من العقاب.
ومنا من يطبِّق الأمر على نفسه: «إنَّ ما يحصل لي من سوء ومصائب متلاحقة إنما هو عقاب من الله لأنني فعلت كذا وكذا».. جميل هو محاسبة النفس، وجميل ألاَّ ننام الليل إلا ونحن نحسب أنفاسنا وحركاتنا نقيس بها إيماننا وطاعاتنا، لكننا نقول (محاسبة النفس) لا معاقبتها، ونقول (محاسبة النفس) لا محاسبة الله.. لسنا نحن من يسمِّي أفعال الله ويعنونها، فنضع الأحكام المسبقة، ونقول أن المصيبة الفلانية عقاب الله دون النظر إلى بقية الأحكام.. مخطئ من يرى الطوفانَ والجرادَ والقُمَّلَ والضفادعَ والدمَ عقاباً من الله على فرعون وقومه المجرمين، بل هي ﴿آيات مُفصَّلات﴾، وما الآيات إلا تنبيه وتحذير وبرهان، وهي دعوة لليقظة من السبات الذي هم فيه، والأمر ينطبق علينا إذا نحن أصابتنا مصائب متلاحقة متوالية، فهي آيات، وتنبيه أن نستفيق من غفلة، وربما هي إقصاءٌ من الله لنا، فنبتعد عن الشخص الفلاني أو الشيء العلاني، ولعلها كذلك تطهير ذنوب، أو أجور من الله تغمرنا؛ إذ الشوكة يشوكها المؤمن له بها أجر، فما بالك بالمصائب المتلاحقة؟ كم لنا بها من أجور متلاحقة؟
أمَّا أن نحكم على المصائب أنها عقاب؟ كلا، دعونا نحسن الظن بالله، فالله عند ظن عبده به، ورُبَّ نعمة تأتينا من السماء نقلبها نحن بأنفسنا إلى نقمة.. أو إلى عقاب.
التعليقات ()