يقول العرب إن الكتاب واضح من عنوانه، والغرب يقولون: من غلافه، وهناك من ينصح ألاَّ نحكم على الكتاب لا من عنوانه ولا من غلافه، وقبل عشرين عاماً قال لي صاحب مكتبة إن الكتاب واضح من فهرسه.
بعيداً عن إمكانية الحكم على الكتب من عناوينها أو أغلفتها أو فهارسها، هناك اليوم طقوس جديدة، أو فلنقل موضة جديدة للحكم على الكتب تعتمد على الإهداءات التي يكتبها الكاتب على كتابه للقراء، ففي معارض الكتب، الكاتب المتواجد هو الكاتب الذي تَروج كتبه، والكاتب اللبق الذي يجيد جذب القراء هو الذي يملك أن يسوِّق لكتابه، حتى دور النشر تعتمد في بيع كتبها على الكاتب نفسه، لا يهم كثيراً أن يكتب بمهارة وأن يتقن اللغة أو يجيد الحبكة ورسم الشخصيات، بقدر أهمية قدرته على تسويق كتابه والتواجد المستمر في معارض الكتاب، وإلاَّ فكثير من دور النشر تتوقف عن التعاقد مع الكاتب، مهما كان متميزاً وناجحاً ككاتب، وتتخلى عنه لمجرد أنه غير ناجح كمسوِّق.
نبتعد عن التسويق ولنتحدث عن الإهداءات والتوقيعات على الكتب، لماذا يسعى القارئ إلى الحصول على إهداء الكاتب؟
الإهداءات التي يكتبها الكاتب لقارئه تخلق علاقة بينهما، أولاً أنْ أضمنَ - باعتباري كاتباً - أنَّ هذا القارئ لن يرمي الكتاب ولن يهديه لآخرين، فاسمه مكتوب بخط الكاتب ذاته، مما يصعب على القارئ التخلي عنه.. ثانياً القارئ يوثِّق بهذا أنه قابل الكاتب وتعرَّف عليه، وهو أمر لا يُستهان به.. في النهاية الكتابة والقراءة شراكة بين الاثنين، ومن الجميل أن يكون اسمي كقارئ متواجداً في الكتاب، خاصة وأن الكتاب بعدما يُطبع يخرج من ملكية الكاتب إلى ملكية القارئ، وبما أن القارئَ صاحبُ الكتاب الآن إذن له الحق في أن يُكتب اسمه عليه، وخط الكاتب مع توقيعه هما الختم الذي نعتمد عليه كوثيقة لهذه الملكية.
قبل سنوات، في عام 2014، كنت أوقع كتابي ‹حب أسود› في معرض الشارقة للكتاب، صادفتُ الشاعرة السورية غالية خوجة في نفس الدار توقع كتاباً لها بعنوان ‹مملكة النشيد›، لفتني العنوان فسألتها إن كان الكتاب قصائد شعرية، قالت لا، هي رواية تتحدث عن عالم آخر، قلت: ‹‹أنا أحب غرائب القصص والفانتازيا››، ابتسمت وقالت: ‹‹ليست من الغرائب ولا الفانتازيا››، ثم كتبت لي الإهداء سريعاً، وصفتني فيه: [أخاً عزيزاً وقارئاً تعجبه غرابة النشيد والقلوب البيضاء].
هذا هو مغزى مقالتي هذه.. في معرض مسقط للكتاب الأخير 2020، لاحظت أن كثيراً من الكُتَّاب يحفظون إهداءاتهم عن ظهر غيب، ثم يأتون ليكتبوها بآلية، هي نصٌّ موحَّد لجميع الإهداءات، مهما كان مفعماً بروح الكاتب لكنه يفتقد – برأيي – إلى روح العلاقة بين القارئ والكاتب.. لكي تكتب إهداءً اكتبه بروح اللحظة، حروفاً تشي أن الكلمات كُتبت لهذا القارئ بالخصوص، وليست مجرد كلمات مكررة للجميع، اختصرها إن شئت، اكتب مثلاً: [أتمنى لك قراءة ماتعة] وكفى، لكن دعها خاصة لهذا القارئ الذي جاء إليك يبتغي منك تميزاً في الحروف، ليس فقط تميزاً في مضمون كتابك، إنما في مضمون الإهداء أيضاً، به يشعر أن الإهداء كُتب فعلاً له، وليس نسخاً ولصقاً يتشابه به مع بقية القراء.
أنا لا أدَّعي أنني متميز في كتابة إهداءاتي للقراء، لكنني لا أكرر الإهداء الواحد للجميع، وهو ما أتمنى أن يعيه الكُتاب الآخرون، وإلى جانب ذلك خطِّي سيء جدًّا، وقد كنت قديماً أخجل من كتابة الإهداءات وأتهرب منه بسبب هذا الخط السيء، غير أن تجربتي مع القراء الرائعين الذين كانوا يقولون لي: ‹‹خطك ليس سيئاً، ويزيده جمالاً مضمون إهداءاتك، يكفي أن اسمنا فيه››، وكثيرون ما هم.. هذا جعلني أتجاوز خجلي، ما جعلني أستمر في تشويه صفحات الكتب بخطي على النحو الذي يرضيهم.
هناك أيضاً طقس أكثر حداثة في الحصول على إهداءات الكاتب، يتعلق بالتصوير.. لا أتحدث عن تصوير السيلفي مع الكاتب، إنما عن وقوف القارئ على رأس الكاتب يصوِّره وهو يكتب الإهداء، لعل الصور الفوتوجرافية جيدة، لكن الأدهى أن التصوير يكون بالفيديو.. هذا يبهج الكاتب بالفعل، فقط مع كاتب خطه سيء مثل خطي ويحاول استحضار كلمات الإهداء ببطء، يكون الأمر مربكاً، وهذا يؤثر على مضمون الإهداء.. فمعي لا بأس بتصوير الفيديو، لكن تبعات هذا يقع غالباً على مضمون الإهداء.
السؤال الأهم من كل ما سبق هو: ماذا بعد التوقيع والإهداء على الكتاب؟
قارئة من القراء أخذت مني إهداءً على كتاب من كتبي؛ طلبت مني أن أكتب إهداء لم أكتبه لأحد من قبل، فكتبت لها ما يليق باسمها ‹رحيل›، تمنيت لها فيه أن تكون رحلتها في الكتاب رحلة مسافر يعود سالماً غانماً، أعجبها الإهداء فقالت: ‹‹سأقرأ الكتاب››، لم أفهم كلامها، لكنني شكرتها، غير أنها كررت بقوة: ‹‹سأقرأ الكتاب، حتماً سأقرؤه››، ما زلت لم أفهم، لكنني أكدت لها أنه يجب أن تقرؤه بالفعل، غير أنها أصرَّت: ‹‹سأقرؤؤؤؤه››، ما الذي من الممكن أن تفعله بالكتاب إن لم تقرؤه؟ لم أفهم المغزى من إصرارها، أو ما المطلوب مني بالضبط كردِّ فعل إزاء إصرارها على أمر حتمي.. رحلت رحيل، لكنها غالباً لم تقرأ الكتاب.
ماذا بعد الإهداء فعلاً؟ هل ستقرأ الكتاب، أم ستكتفي بصورة الكتاب في مواقع التواصل الاجتماعية أمام كوب تشاي لاتيه أو قهوة مثلجة في ستار بوكس، توثِّق به أنك مثقف أو تزيد من شعبيتك لدى متابعيك؟ يُسعد الكاتبَ أن يرى صورة كتابه بالتقاطتك الجميلة، لكن تزيد سعادته أن يعلم أنك قرأت الكتاب، الغلاف والتنسيق الخارجي للكتاب غالباً من تصميم دار النشر، أما الحروف داخل الكتاب فهي التي من المفترض أن يتم تصويرها واقتباسها، والأجمل من التصوير أن يناقش القارئ كاتبَه.. التصفيق أيضاً يزيد من نشوة الكاتب إذا امتدحتَ كتاباته، ولكنَّ المناقشةَ وذكرَ السلبيات جنباً إلى جنب مع الإيجابيات، بعدل وإنصاف، هذا من شأنه أن يزيد طاقة الكاتب فيتميز ويتطور أكثر فأكثر.
وكما يحب أن يأخذ القارئُ من حروف الكاتب، يحب الكاتبُ كذلك أن يأخذ من القارئ رأيه وانتقاداته.
التعليقات ()