عالم الرحلات عالم رائع برَّاق، علينا أن نَلِجَهُ وأن نستفيد منه، كما وَلَجَهُ واستفاد منه أسلافنا ومن سبقونا من الرحَّالة الشهيرين.. يكفي السفرَ أنه ما سُمِّي بهذا الاسم إلاَّ لأنه يُسْفِرُ عن أخلاق الأصحاب والرفاق، ويفضح معادنهم.
حتى ديننا الحنيف يحثنا على السفر، كما في قوله تعالى: {قُلْ سِيْرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ}، وقال جلَّ وعلا: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ المُكّذِّبِينَ}.. والآيات كثيرة في هذا الشأن.
وإذا تمعَّنا في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيْرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوْبٌ يَعْقِلُوْنَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنْهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}؛ لو تمعنَّا في هذه الآية لرأينا أن السير في الأرض (وهو بمعنى السفر والتأمل) من أسباب نقاء بصيرتنا للأمور من حولنا، وفهمنا الحق من الباطل، وإلاَّ ما قرن الله تعالى بين السير في الأرض وبين التبصرة!
والمتمعن في التاريخ القديم، يجد أن السفر كان حاجة الحكماء والعقلاء والأدباء، فها هو (بيدبا)، الفيلسوف الهندي، يطلب منه الملك (بشليم) أن يجمع له الحِكَمة في كتابٍ، فسافر دهراً من الزمن يجوب الأقطار، ثم عاد ليؤلف مجموعة من القصص بألسنة الحيوانات في كتابه الأشهر [كليلة ودمنة]، وهو الكتاب الذي ترجمه فيما بعد الأديب البليغ (ابن المقفع) إلى اللغة العربية.
وعلى الرغم من اختلاف الآراء في من هو مؤلف الكتاب الحقيقي، فالبعض يؤكد أن ابن المقفع نفسه هو المؤلف، ولكنه وارى الأمر بهذه القصة عن (بيدبا)؛ إلاَّ أن وجود القصة بحدِّ ذاته دليل على أن السفر له شأن عظيم في ترسيخ العقول واكتساب الحكمة، لذلك نشأ أدبٌ خاصٌّ له، أُطلق عليه اسم: (أدب الرحلات).
وأدب الرحلات هذا من أجمل وأمتع الفنون، وأكثرها فوائد وفرائد!
وربما من بين جميع الشعوب، كان أشهر رحلات الشعوب هي رحلات اليهود من بني إسرائيل، ولعلَّ قصة هجرة سيدنا موسى عليه السلام مع قومه هي أشهرها على الإطلاق، ابتداءً من هروبهم من فرعون الذي أغرقه اللهُ وجندَه في اليَمِّ، مروراً بعبادتهم للعجل ورفعِ جبلِ الطُّورِ فوقهم، ومن ثم مرحلةِ التِّيهِ التي مروا بها أربعين سنة قبل أن يصلوا إلى فلسطين.
هكذا نجد أنه حتى القرآن الكريم قد تطرَّق كثيراً إلى إخبارنا عن حوادث كثيرة فيها ترحال وسفر وهجرة، منها قصة الرحلة التي قام بها موسى عليه السلام مع الرجل الصالح الذي قيل إن اسمه (الخضر)، ومنها قصة ذي القرنين الشهيرة في سورة الكهف، الذي عبر الدنيا شرقاً وغرباً، وقيل بأنه هو نفسه الإسكندر الأكبر، وكذلك إبراهيم عليه السلام الذي هاجر بعدما حاجَّ قومه في وحدانية الله، وعجزوا عن إحراقه، وكان معه ابن خالته (لوط) عليه السلام.. ولا ننسى كذلك ذكر القرآن الكريم لقريش ورحلتهم التي كانوا يرتحلونها للتجارة إلى بلاد الشام، الشهيرة برحلة الشتاء والصيف.. وأشرف الهجرات هي الهجرة النبوية للنبي صلى الله عليه وسلم، مع أصحابه من مكة إلى المدينة.
والعلماء المسلمون كذلك ارتحلوا طلباً للعلم، ومنهم من زار اليونان طلباً للفلسفة.. اليونانيون أنفسهم هاجر كثيرٌ منهم إلى الجزيرة العربية بحثاً عن العلمِ وتعلمِ العربية، حينما كان العرب في أوج قوتهم علميًّا وحضاريًّا.
لولا أهمية السفر والرحلات لدى الإنسان ما كانت كل هذه الرحلات، ولا ذُكرت في أجلِّ كتابٍ، ولا أرهق الإنسانُ قديماً وحديثاً نفسه وأهله، ولا عاش غريباً فترات من عمره بعيداً عن أحبابه وذويه.
ولا ننسى قصة الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم أتمها بمئة؛ حينما سأل التوبةَ نُصح بالهجرة إلى بلدٍ أهلُه صالحون.
وفي تاريخنا الإسلامي الكثير من الرحَّالة العرب والمسلمين، الذين تركوا لنا كنوزاً من أدب الرحلات، مثل: ابن بطوطة، والمسعودي، والمقدسي، والإدريسي، والمؤرخ عبد اللطيف البغدادي، والبيروني.. كل هؤلاء وغيرهم كثيرون، قضوا من عمرهم زمناً ليس هيناً في ترحال وسفر، ليحققوا مقاصد مختلفة، ثم عادوا بمغانم أكثر مما كانوا أنفسهم يتوقعون.
وحتى في العصر الحديث هناك كثيرون خاضوا عباب بحر الرحلات، ورجعوا لنا بكنوز عظيمة، وربما كان أشهرهم هو المصري (رفاعة رافع الطهطاوي)، الذي ذهب إلى عاصمة فرنسا (باريس)، عاش هناك فترة من الزمن، ثم عاد وجلب معه حضارة بأكملها من العلوم والمفاهيم المبهرة، حتى إنَّ مصطلحات ومفردات وعادات فرنسية كثيرة انتشرت في مصر من بعده، لم تنتشر إلاَّ بسببه.
وهناك الأديب والفيلسوف المعاصر (أنيس منصور) رحمه الله، الذي سافر حول العالم في 200 يوم، كان خلالها يرسل مذكراته عبر البريد، تُنشر مباشرة في جريدة مصرية.
وليس العرب هم وحدهم الذين جابوا الأقطار شرقاً وغرباً، بل هناك من الغرب من لهم باع طويل في هذا الشأن، وربما تفوَّقوا على العرب كذلك، منهم على سبيل المثال: الإيطالي (ماركو باولو)، والإنجليزي (تشارلز داروين)، والفرنسي (أندريه جيد)، والأمريكي (أرنست هيمنجواي)، وكذلك الفرنسي (شارل هوبر)، وغيرهم آخرون.
وكثيرون لم يكتفوا بالواقع المُعاش حتى يسطِّروا لنا منه حوادثَ وأحوالَ الرحلاتِ منه، بل هناك أدبٌ خياليٌّ في هذا الشأن، مثل الرحلات الجمَّة الكثيرة التي لم تخلُ منها قصص (ألف ليلة وليلة)، من أمثال قصة الشاب البحار (السندباد) ورحلاته السبع، وقصة الإسكافي، وغيرهما.. وهناك أيضاً الملاحم التاريخية الشهيرة، كملحمة (الأوديسا) الإغريقية، وملحمة (جلجامش) البابلية، وملحمة أبو زيد الهلالي العربية، حتى رواية (أرض السودان) للكاتب أمير تاج السر هي من أدب الرحلات المتخيلة.. كل هذه، وغيرها الكثير، لم تخلُ من هذا الأدب الممتع العجيب.
كلنا من الممكن أن نكون هؤلاء الرحالة العُظام، وأنا أدعوكم من هذا المنبر إلى الترحال والسفر بقدر استطاعتكم، فالسفر ــ كما أسلفنا ــ ذو فوائد جمة عظيمة، أليس الشافعي يقول:
سافر تجد عِوَضاً عمن تفارقه
وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النَّصَبِ
إني رأيت ركود الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ
والأُسدُ لولا فراق الغاب ما افترست
والسهمُ لولا فراق القوس لم يُصبِ
والشمسُ لو وقفت في الفُلْك دائمة
لملَّها الناس من عجم ومن عربِ
والتِّبرُ كالتُّرب مُلقىً في أماكنه
والعودُ في أرضه نوعٌ من الحطبِ
فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبه
وإن تغرَّب ذاك عزَّ كالذهبِ
سافروا وارتحلوا، ثم إنكم إذا عدتم من رحلاتكم، أخبرونا بتجاربكم هناك.
هم عادوا فأخبرونا.. ابن بطوطة في رحلاته كان يكتب مذكراته، وقد مزَّقها الهنود كلها، لكنه عاد وكتبها من جديد بصبر وإصرار، وحينما رجع إلى مسقط رأسه (طنجة)، ألَّف كتابه الشهير [تحفة النُّظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار].. (بيدبا) كما قلنا، عاد من رحلته فكتب [كليلة ودمنة].. المسعودي ألَّف [مروج الذهب].. المقدسي كتب [أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم].. الإدريسي كتب [نزهة المشتاق في اختراق الآفاق].. البيروني كتب [تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة].. وأما رفاعة الطهطاوي فقط ألَّف كتاباً عنونه بـ[تخليص الإبريز في تلخيص باريز]..
وربما كان أغزر الكُتَّاب تأليفاً في هذا الخصوص هو الفيلسوف (أنيس منصور)، الذي كتب عن رحلاته الخاصة ورحلات الآخرين في كتب متفرقة، منها: [أعجب الرحلات في التاريخ]، [حول العالم في 200 يوم]، [بلاد الله خلق الله]، [اليمن ذلك المجهول]، وكذلك [أطيب تحياتي من موسكو].
كل هؤلاء سافروا ورحلوا، ثم عادوا وأخبرونا بما جرى لهم هناك وحدث، ولستُ أدعوكم إلاَّ أن تحذوا حذوهم في هذا.. لستُ أطلب منكم تأليف كتب أو مقالات، ولا إلقاء محاضرات وندوات، ولكن يكفي أن تتحدثوا عن رحلاتكم إلى من حولكم، وأن تخبروهم بما رأيتم وبما سمعتم.. أخبروا أصحابكم وأقرباءكم ومعارفكم، فليس أجمل من أن نسافر ونرجع بهدية لمن نحب، وهل أجمل من معارفنا وتجاربنا نهديها لمن نحب؟!
وأما كاتب المقال، فلم يسافر كثيراً، كل أسفاري كانت إلى بعض دول الخليج، وإيران، وتايلند، وسريلانكا، واقتربتُ من اليمن كثيراً، لكنني لم ألجه..
في المقال القادم بإذن الله سأحدثكم عن رحلتي إلى تايلند.
التعليقات ()