عربتك
Loading

ملهى إبليس

وأقلعت الطائرة!

لم تكن المرة الأولى التي أركب بها طائرة، فهناك رحلات محلية كثيرة ركبتها ذهاباً وإياباً من وإلى العاصمة مسقط، وهناك رحلة زرت فيها جمهورية إيران، جزيرة قشم (أو قسم بالأصح)، لكنها المرة الأولى التي تكون فيها الرحلة بعيدة إلى هذه الدرجة.. سبع ساعات تقريباً نكون فيها على متن الطائرة، وليتَ مقعدي كان يواجه النافذة!

كان ذلك عام 2010 من شهر مارس، واجهنا آنذاك في منطقتنا شحًّا بالأمطار، والتوقعات أنها ستهطل أمطار غزيرة في الوقت الذي نكون فيه في تايلند.. ولكن من يأبه؟ نحن ذاهبون إلى بلاد الأنهار، حيث الأمطار مستمرة، والخضرة ممتدة، هذا بخلاف احتفال مهرجان الماء الذي سيقام هناك قريباً.. لن تفوتنا الأمطار إذن.

نشأنا ونحن بعدُ صغار أن هي تايلند بلاد الفسق، والشيطان هناك يلهو كيفما يحلو له بلا حسيب ولا رقيب.. لكن الأمور تغيرت فيما بعد، وباتت تايلند بلد الجمال والنزهات والخضرة الجميلة، بلد المستشفيات والعلاجات لأمراض يستعصي علينا علاجها هنا؛ خاصة وأن والدي كان مصاباً بمشاكل في ركبتيه، وأنه وُصف لنا طبيب هناك يُطلق عليه (ملك العظام)؛ طبيب مشهور سبق أن عالج ملك تايلند السابق نفسه منذ فترة قريبة.

بطبيعتي أعشق السفر، وهي فرصة لن تتكرر لرحلة جميلة إلى بلد جميل، حتى وإن قيل لي إن الشياطين تخرج ليلاً، بشحمها ولحمها ولهيبها، تتمشى في الطرقات، وتدعو إلى عبادة بعلزبول نفسه.. السفر ممتع في كل الأحوال، وللشياطين أوكارها.. المؤلم الوحيد الذي كان يحز في نفسي أن ابني طلالاً كان قد وُلد لتوه، وكنت أحب لو شبعت منه قبل أن أرحل.

 بعد بحث مضنٍ في مكاتب الحجز، كانت أرخص الأسعار هي الرحلات من مسقط إلى تايلند، فاضطررنا إلى السفر من خصب إلى مسقط، في رحلة برية استمرت ست ساعات، لم نرتح بها في فندق، بل اتجهنا مباشرة إلى المطار، بأمتعتنا وبطاطس عُمان.. من المستحيل أن نذهب إلى تايلند بدون بطاطس عمان، هي أكلة سنموت جوعاً إن لم نأكلها، من ذا الذي يتخلى عن بطاطس عمان في غربته؟!

أنا وأخي أحمد، ومعنا أمي وأبي، وكذلك صَاحَبَتنَا خالتي، وابنها توفيق (الكاتب توفيق الشحي).. وضعنا أمتعتنا تحت جهاز الفحص في المطار، ثم دخلنا بدورنا للفحص، وعدنا لنستلم أمتعتنا، وانطلقنا نجلس في قاعة الانتظار في المطار.. لكنني تنبهت أخيراً أنني نسيت اللاب توب في جهاز الفحص هناك.. عدت أدراجي، ونظرت إلى الأمتعة، فإذا حقيبة اللاب توب تنتظرني.. أمسكت بها أحملها، لكن رجل الأمن منعني:

ـ ممنوع

ـ هذه حقيبتي

ـ ليست لك.. هي لرجل آخر ذهب وسيعود

هي حقيبتي، أنا متأكد منها، لكن رجل الأمن كان مصرًّا أن الحقيبة ليست لي.. أي معضلة هذه؟!

ـ أثبت لي أنها حقيبتك، ثم خذها

كيف أثبت له؟ أنا لم أكن أستخدم كلمة مرور لفتح اللاب توب، وليس في اللاب توب ما يشير إلى أنها ملكي.. الجهاز جديد، ولا أذكر أنني وضعت فيه شيئاً من متعلقاتي، إلاَّ …

نعم، تذكرت، هناك ملف.. كنت في تلك الأيام أصمم مجلة خاصة للتربية والتعليم، هي مجلة ‹‹المجهر›› التي نسبها بعض الموظفين إلى أنفسهم فيما بعد.. فتحت اللاب توب ورجل الأمن ينظر، ثم فتحت الملف، وأريته اسمي في الملف، فلما طابق الاسم مع جواز سفري، سمع لي أن آخذ اللاب توب.

استكملنا إجراءاتنا، وركبنا الطائرة متجهين إلى وجهتنا.. مررنا (ترانزيت) بباكستان، ثم تابعنا طريقنا إلى تايلند.. وفي تايلند كان هناك نسيبي يستقبلنا في المطار.

نسيبي في تايلند يعالج ابنه من فترة طويلة، استقبلنا في المطار وقد دبر لنا وسيلة نقل مناسبة، أوصلتنا مباشرة إلى منطقة (نانا ـ 4) في بانكوك، وهو حي العرب كما هو متعارف عليه.

في (نانا ـ 4) الأمور طيبة، لكن إذا حلَّ الليل انتشرت المومسات تلهو وتلعب، فتجد في الطرقات الجمال الأنثوي التايلندي المغري يناديك بشهوة أن هلم نقضي ألذ الأوقات.. هناك فتاة أمسكت بيدي في الشارع ووضعته على صدرها، وقالت كلاما لم أفهم حروفه، لكن فهمت مغزاه.. وكنت في حالة مزرية، لا أستوعب ما يجري حولي، أزحت يدها، وجعلت أبتعد مسرعا.

لم يكن الأمر سهلاً على رجل لم يكن قد اعتاد على أن يرى شعر فتاة، فإذا بيده الآن تقع على صدر غض لفتاة ليل، وأمامه يمشي رجل يده ممسكة على مؤخرة امرأة وهي تضحك، وعلى يمينه جلس رجل سكران يقبل شفتي امرأة سكرانة في مرقص..

المراقص عندهم محترمة جدًّا، إذ ليس هناك مبنى يحجبهم.. إنهم يتراقصون في الشارع، ويشربون في الشارع، ويقبِّل بعضهم بعضاً في الشارع.. والعبد الفقير لله يتجول في الشارع ينظر إلى هذا وذاك، وإلى هذه وتلك، بين دهشة، وبين ضحك لا يستطيع كتمانه..

أضحكني الموقف بالفعل، إذ كنت أخوض تجربة جديدة في حياتي، لم أتخيل أنني سأخوضها يوماً.. تخيلت أن أجرب كل شيء في حياتي، إلاَّ أن أتجول في شارع فيه من العري والتفسخ والانحلال بهذا القدر الذي كنت أراه بأم عيني في تلك الأيام.. هناك شابة نحيلة الخصر، خلعت حمالة صدرها أمامي دون اكتراث لتهيئ صدرها كي يبدو مثيراً للعيان!

في صباح اليوم التالي اتجهنا إلى المستشفى..

خارج منطقة (نانا ـ 4) الأمور طيبة، والنساء لا حرج في التعامل معهن ورؤيتهن، أما في حي العرب، فهو سوق تفده المومسات، إذ التجارة الرابحة هنا هي الجنس، والعرب أكبر من يمكنه أن يدفع لهذه البضاعة.. لا أدري هل العرب هم سبب هذا الخراب الأخلاقي هناك، أم أن التايلنديين هم من أغووا العرب حتى جذبوهم إلى تلك الحفرة!

في المستشفى الحال مريح، والأعصاب هادئة.. لا شيء سوى الملل من الانتظار حتى يأتي دورك في الفحص والدخول على الطبيب.. تم الفحص أخيراً، وزرنا الطبيب الذي قيل إنه (ملك العظام)..

رائع هو المستشفى الذي زرناه.. لا أذكر اسمه، والحروف الإنجليزية التي كُتبت هناك تُنطق بطريقة لا تطابق المكتوب، وكأن الحروف لها نغمة مختلفة عن تلك التي تعلمناها بالإنجليزية.. لكن الحق يقال إنه مستشفى راقٍ، وتعاملهم جميل جدًّا.. يستقبلك عند الباب موظفو المستشفى، ويجلبون لك مترجماً يصاحبك منذ دخولك المستشفى، ولا يتركك عند مغادرتك، بل يتكفل هو بنفسه بإحضار التاكسي لك إن احتجت.

دخلنا أبي وأنا على ملك العظام، وخلفنا المترجم.. سألني الطبيب:

ـ هل تجيد الإنجليزية؟

ـ نوعاً ما.. ليس كثيرا

التفت ملك العظام إلى المترجم وطرده، نعم طرده.. فلما خرج المترجم، أخبرني الدكتور إنه يحب محادثة المرضى بصفة مباشرة، أفضل من الترجمة التي قد يصل معناها خطأ..

أحترم وجهة نظرك يا دكتور، لكن من قال إنني أجيد الإنجليزية إلى هذا الحد؟ لا تنس أنك ستحدثني بمصطلحات طبية لن أستوعبها.. لكن لم يبدُ على الدكتور أنه قد فهم وجهة نظري.

الحق يقال إن الدكتور كان عبقريًّا، يجيد الحوار والكلام وتبسيط المعاني، وبدأت أستوعب حالة والدي وما يجب فعله مما يجب تجنبه.. يبدو أن كثرة تعاملي مع أطبائنا هنا جعلني لا أثق بالأطباء عموما؛ لكن هذا الطبيب أكد لي أن أصابع يدك ليست واحدة، وأطباء عن أطباء يختلفون.. بل أطباء بلد عن أطباء بلد آخر يختلفون.. وكأنهم هنا ينتقون لنا الأطباء انتقاءً دقيقاً كي يكونوا الأسوأ.

لم تكن رحلتنا إلى بانكوك رحلة استجمامية بأي حال من الأحوال، نمطنا هناك كان رتيباً؛ نذهب يوميًّا إلى المستشفى، من الساعة الثامنة صباحاً، ولا نعود إلاَّ في الساعة الرابعة عصراً، نرجع مهدودي الحيل، نرتاح حتى مغيب الشمس، نصلي، ثم نتجول في السوق.. لا نبتعد كثيراً، فلم نكن نعرف مكاناً قريباً يمكننا التجوال فيه للاستجمام، لذلك اعتمدنا على التسوق كسبيلٍ لتمضية الوقت.

التسوق جدًّا آمن هناك.. أحد الباعة أغرى ابن أختي (أصغر من سبع سنوات) بفيلم كرتوني، فلما عاد إلى البيت لم يكن في الفيلم كرتون، ولا حتى بلاستيك.. إنهم لا يراعون الأطفال بتاتاً!

كان جو السوق مملوءاً بالقاذورات؛ لذلك كنت أخرج من السوق وأتجول في الطرقات الخارجية، حيث لا مومسات ولا هم يحزنون.. هناك نهر جميل أقف عليه يوميًّا، أتشمم رائحة نقية لا غبار فيها.. هناك محلات فقيرة أمر عليها، تبيع فيه عجوز أرهقها الزمن، أو طفل يلاعب كلباً وديعاً، أو فتاة لا تبدو لي أنها تلوثت بعدُ بما تلوث به من في السوق.. هناك وكالات لبيع السيارات، وقفت أقرأ أسعارها، فإذا هي لا تختلف كثيراً عن أسعارها عندنا.. هناك مدارس وروضات أطفال..

أحب التجوال في تلك المنطقة، بعيداً عن الصخب الجنسي المستعر في السوق، لكنها منطقة محدودة، أتمشى فيها على قدمي، ثم لا ألبث أن أعود فأسلك طريق السوق للعودة إلى الفندق.. جولة يومية تستغرق تقريباً ساعة إلاَّ ربع، لا أجد غيرها أروِّح بها عن نفسي في معمعة ما كنا نفعله في العلاج النهاري اليومي.

وفي رحلة عودتي إلى الفندق، أشتري لنفسي جوز هند، أشربه بارداً، أخفف به وطأة الرطوبة المزعجة، ثم آخذ بعض الفواكه اللذيذة التي يتم تقطيعها بطريقة مغرية، وأحاول الابتعاد قدر الإمكان عن بائع الحشرات المشوية، الذي تفوح منه رائحة مقيتة؛ في مزيجٍ من نفور من تلك الرائحة من جهة، وحجةٍ واهية للاقتراب من المومسات المتعطرات بأكثر العطور جاذبية من جهة أخرى.. من أي جنة يتم استحضار تلك العطور يا ترى؟!

أمام ناظري رجل أجنبي يقترب من فتاة ليل ويقول لها إنها جميلة، وإنه يريد تقبيلها، لكنها تضحك وتقول إن القبلة بثمنها.. لكنه يسرق القبلة ويركض، وهي تضحك وتصرخ خلفة في دلال: النقود يا رجل.

كنا نتحدث عن الأمطار في خصب، أليس كذلك؟ تلك الأمطار الغزيرة التي من يكترث بها ونحن في تايلند؟ تايلند حيث الأمطار لا تتوقف، وحيث الأنهار تجري من تحتنا، وحيث الاحتفال بمهرجان الماء الذي سيقام قريباً..

يا له من مقلب!.. إنه شهر مارس يا رجل، وفي مارس تمر تايلند بأبشع أنواع الرطوبة، جو خانق لا يُطاق، الأمطار متوقفة، ومهرجان الماء قد انتهى، لقد جئنا متأخرين وذهب القطار إلى حيث لا رجعة.

أعود إلى الفندق، أحمل بيدي كيساً من الفواكه اللذيذة، ولا أنسى زجاجة البيبسي، ثم أمر في طريقي مجبراً أمام محل التدليك، حيث تتراقص حولي فتاة ذات قوام لا يُقاوم، تدعوني إلى المساج المريح؛ لكنني أتجاهل كل ذلك، وأدخل الفندق بكل هدوء.. لقد حان موعد النوم، وفي الصباح جولة أخرى في أروقة المستشفى.

المساج رائع في تايلند، تمنيت أن أجد رجلاً يقوم بهذه المهمة، لكنني لم أجد.. هناك رجال، لكن أنا لم أعثر عليهم.. المساج أنواع بحسب ما قيل لي: مساج القدمين، وهو أبسط أنواع المساج، إذ تنام على ظهرك في كرسي جلدي، تأتي الفتاة التايلندية، تحتضن أخمص قدميك بصدرها العاري، ثم يبدأ المسح بطريقة تذيبك بلا شك.. لكن أُراهن أن الصدر الملامس لقدميك سينسيك تعب قدميك قبل التدليك نفسه.. هذا المساج يُقام في بهو المحل، لا حرج فيه، ولا غضاضة من ممارسته أمام الجميع.. هناك مساج آخر يُسمى المساج التايلندي الكامل، هذا لا يتم إلا خلف الأبواب المغلقة.

أستيقظ صباحاً، آخذ حمامي، ثم أنطلق مع عائلتي إلى المستشفى، أبي وأمي وخالتي يمرون كالعادة في علاجاتهم اليومية.. وقت الغداء نتغدى، ثم هناك كمبيوترات متاحة في بهو المستشفى، تضع نقودك في فتحة مخصصة لها، فتمنحك مدة نصف ساعة تتصفح فيها الإنترنت.. نبقى حتى العصر، ثم ندفع مستحقات العلاج اليومي، قبل أن نعود أدراجنا إلى (نانا ـ 4) من جديد.

سأعترف أنني لم آكل طعاماً في تايلند وأعجبني، دائماً أشعر أن الطعام ينقصه الملح، حتى المطاعم العربية طعامها سيء، لعل أفضلها كان المطعم اليمني، لكنه لم يكن بتلك الجودة التي أريدها.

نسيبي طباخ ماهر، وأحياناً يطبخ في الفندق.. هذا هو الطعام الذي يؤكل بالفعل.

وبطاطس عُمان.. أواه من هذا الاختراع الذي لا مثيل له.. أمي (أو هي خالتي) أعطت إحدى الموظفات في الفندق شيئاً من بطاطس عُمان، فإذا الموظفة تغرم بالطعم اللذيذ.. لا أحب أن أقوم بالدعاية، لكن (علي الشيهاني) شركة متميزة، فقط لو كانت تضع عدداً من حبات البطاطس يليق بقيمة وحجم الكيس الذي نشتريه!

هناك مواقف كثيرة حصلت معنا في تايلند بلا شك، لو سردتها كلها لاحتجت إلى جزء ثانٍ من المقال.. لكن على عجالة أقول إن أجمل سوق هناك هو سوق (بلاتينام).. أذكر أنني قلت لسائق التاكسي (بلاتينيوم) فلم يستوعب.. جلست أكرر له الكلمة آلاف المرات، لكنه لم يستوعب.. في النهاية سألني: ‹‹تقصد بلاتينام؟››.. يا حبيب ماما، هل فرقت معك حرف الألف بدل الياء كيلا تفهم؟

بلاتينيوم.. عفوًا، أقصد بلاتينام مبنىً ذو ستة طوابق تقريباً، كل طابق عبارة عن سوق بحدِّ ذاته، وأكثرهم - لو لم يكن كلهم ـ يبيعون الملابس والأقمشة.. وعندما أقول أجمل سوق، لا يذهب فكرك بعيداً، فالسوق للنساء، كما هي عادة أسواق هذا الزمن.

في السوق وقفتُ أمام بائعة جميلة، وجهها منير، وجسمها جذاب، وقوامها أنثوي يحيلك إلى بخار.. المشكلة أنها حينما تحدثت، بدت لي سوءاتها، وبدأت أنا أخصف على وجهي من ورق المحل أواري بها خيبتي.. لقد كانت رجلاً!

هناك نظرية استخلصناها أنا وتوفيق في تايلند، وهي أن التايلنديين يعانون من نقص من الجنس الأنثوي، ورحمةً بالشبابِ العَطِشِ هناك، ضحى بعض الرجال بذكورته وقرر أن يكون أنثى.. ما أكثرهم!.. كالحشرات، كلما رفعت حجراً وجدت منهم قبيلة تحته.

الآن نأتي للإحراج والفضائح:

بطني آلمتني ونحن في مبنى (بلاتينام)، وكان العثور على دورة مياه أمر ضروري، وإلا حدث ما لا يحمد عقباه!

وبما أن الطابق العلوي فيه مطاعم، كان طبيعيًّا أن أستنتج أن يكون هناك حمام.. ركضت إلى الطابق وأنا في حالة مزرية.. الحمد لله، لم تكن هناك زحمة.. الناس طبيعيون تماماً، يدخلون الحمامات ويخرجون منها بسلاسة.. كان الأمر مبشراً بالخير..

دخلت أحد الحمامات، فإذا الوضع مخزٍ.. قذارات لا تُحتمل، الثاني كذلك، الثالث.. قذارات لا يحتملها خنزير، لكنني قررت أنَّ الوضع طارئ، ولا بد من أن أحتمل الروائح.. المشكلة الأكبر أن هؤلاء (الـ...) لا يغتسلون بالماء، إنها معلومة تعرفها كل ذبابة في الوجود، وكان يجب أن أتوقعها.. هؤلاء يعتمدون على أوراق محارم للتنظيف، وهو موقف لم أتخيل نفسي فيه.

لكن أين ورق المحارم؟ لا يوجد شيء.. الناس يدخلون، يقضون حوائجهم، ويخرجون بسلاسة مطلقة، ولكن لا توجد أوراق محارم.. يا قوم، كيف تنظفون أنفسكم؟!

هنا طفح الكيل، لن أفعلها وأخرج دون تنظيف!

أسرعت خارجاً من بيت الخنازير هذا، وأخبرت من معي بالحال، وأنه يجب العودة إلى الفندق مباشرة.. أما كيف سار الوضع، فهو أمر لا أدريه.. الله لطيف بالعباد، ويسَّر أن نصل إلى الفندق في الوقت المناسب 

لم تكن هذه زيارتي الوحيدة لبلاتينام، بل ذهبنا في اليوم التالي نستكمل ما انقطع من تسوقنا، واشتريت ملابس جميلة لأطفالي، وبعض الهدايا، واشتريت كذلك محفظة نقود، أنا الذي لا يحمل محفظة نقود في جيبه أبداً.. لكن شكلها أعجبني، ورأيت أنه في وضعي وأنا أرتدي قميصاً وبنطالاً، وجودُ المحفظة ضروري.. وكان شعر رأسي طويلاً، فحلقته في محل حلاقة كبير، تجنبت فيه أن تحلِّقني امرأة.. كانت ستكون تجربة جميلة، أنا الذي يحب أن يجرب كل جديد، لكنني (للأسف، ولحسن الحظ) لم أفعلها.

لا أدَّعي أنني كنت سليم القلب، ولا أنني كنت أغض بصري طيلة ما أنا هناك، فالمشاهد التي تمر أمامي كانت بالقوة بحيث تجعل المر لا ينظر، بل يحملق بعينيه وعقله وقلبه أيضاً.. يكفي أنك تمشي في الشارع المزدحم في سوق (نانا ـ 4)، والأجساد من حولك ترتطم بك يميناً ويساراً، أجساد لينة طرية، والعطور (العطور القادمة من الجنة) تأخذك إلى عالم آخر، لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. هل يضعن في عطورهن خمراً يُسكر من يشمها؟! لا أشك بتاتاً!

ذات يومٍ خرجت من دائرة السوق وذهبت أتجول في منطقتي الآمنة، بعيداً عن بنات الهوى، فإذا سيارة تاكسي تتوقف أمامي.. مبتسماً قلت إنني أريد أن أتمشى على قدمي، ولست بحاجة إلى سيارة أجرة، لكنه أشار لي أن أقترب، وبدأ حواره معي:

ـ متزوج؟

ـ نعم

ـ لديك أولاد

ـ الحمد لله

ـ كم ولداً لديك؟

ـ ثلاثة

أشرق وجهه وابتسم.. لست أفهم ما المفرح أن ترى رجلاً أنجب ثلاثة أولاد؟

ـ إذن أنت بقوتك.. هذا جي

الرجل يلمِّح إلى شيء.. ضحكت، ففتح لي ألبوم صور لنساء عاريات تماماً، وقال لي:

ـ اختر

لم تشدني الصور بتاتاً.. كيف لامرأة عارية تماماً أن تشد رجلاً.. الإغراء لا يكمن في العري، بل في هيئة المرأة وملابسها وسلوكها، أما العري التام، حتى الحيوانات عارية.. ومع ذلك لم أزجر الرجل، وقررت أنه حان الوقت كي أكشف الغطاء قليلاً عن ذلك العالم الذي لم أكن أسمع عنه وأراه إلا في الأفلام والروايات..

ـ بكم؟

أعطاني السعر.. ما أرخصهم وأرخص نساءهم!

ـ والمكان؟

ـ الفنادق كثيرة، سأوصلك بنفسي إلى فندق رخيص

ـ وإيصالك لي بحسابه، أم مجاناً؟

ـ كل شيء بحسابه، لا يوجد شيء مجاني هنا، لا تنس أنني سائق أجرة أبحث عن رزقي

هنا لم أستمر، توقفت وقلت له: لكنني مسلم

ضحك ساخراً.. أشار إلى الناس من حولي وقال: كلهم مسلمون، وكلهم يمارسون ما تتوق أنت إلى ممارسته.. لكن لا تخجل، لن يراك أحد، سأضمن لك السري.

ابتعدت عنه، وقلت: أنا أتحدث عن الإسلام، لا عن المسلمين

تبعني، لكنني تجاهلته، ومضيت إلى طريقي.. أخيراً سئم فابتعد.

أُكملتُ طريقي، ومن حولي القوَّادون ينادون: ‹‹شحم لحم››.. لكنني لا أكترث، وأتساءل بيني وبين نفسي: هل فعلا أتوق إلى ذلك الأمر، لكن الخجل يمنعني؟

لست ملاكاً، لكنني كذلك لست شيطاناً! إن ما رأيته في الحمامات بالأمس يجعلني أقرف هؤلاء، فكيف ألتصق بهم؟!

لمحت بالصدفة طريقاً جانبيًّا لم أسلكه من قبل، لاحت لي من بعيد أضواء كثيرة، وعلى الجانبين محلات مزينة ومتألقة.. كانت فرصة استكشافية جديدة.. هو موقعٌ بدا لي أن أحداً من العرب لم يصل إليه قبلي مطلقاً، فليس من مجنون يبتعد عن سوق (نانا ـ 4) إلا أنا.. لعله سوق جديد، يكون لي السبق في أن أكتشفه فأدل أهلي عليه.

دخلت المكان، فإذا بي أمام سوق دعارة مكشوفة.. سمعت من قبل عن بيوت الدعارة، لكنني لم أر ولم أسمع في حياتي قط عن سوق بهذه الضخامة للدعارة؛ عرايا ورقص ومجون وشرب ومسكرات في الطرقات.. الكل أجنبي أو تايلندي، ولم يوجد من بينهم عربيٌّ واحد سواي أنا.. هل فعلاً وقعت على كنز لم يقع عليه عربي من قبل؟!

لم أخرج مباشرة.. الأضواء مبهرة، والجو مفهم بالبهجة، وقلبي يطرق طبولاً أرى جدار صدري يتحطم أمامها.. لا أدري ما اعتراني، ولكنني كنت أرتعش.. شعرت بالشيطان نفسه في جسدي وفتاة تقترب مني تتمايل وتدعوني أن أقترب.

شعرت أنني لو انتظرت أكثر فسوف يُغمى عليَّ.. أسرعت أخرج من ذلك السوق، أبتعد، لا أدري أين أذهب.. ضللت الطريق!

أين أنا؟

حارة بسيطة، الأضواء والمعازف اختفت.. هناك طفلة صغيرة أمام منزلهم تلعب.. هناك دراجة تقف أمامي وسائقها يسألني الصعود، لكنني بوجه ممتقع أشير له أن شكراً، أنا أتمشى.. لم أجرؤ أن أسأل أحداً عن الطريق إلى (نانا ـ 4)، أكملت طريقي بين المنازل والسكك والحارات، أعتمد على حاستي المترهلة في تحديد الاتجاهات.

ثم رأيت مشهداً غريباً.. مجموعة من الشرطة في شارع ضيق قد اجتمعوا، متسلحين بمتأهبين لشيء ما.. شعرت بالرهبة، ابتعدت عنهم.. قيل لي فيما بعد إن حوادث كثيرة تحدث في هذه المنطقة؛ جرائم وكوارث، وهؤلاء الشرطة يقفون يوميًّا على أهبة الاستعداد لدرء أي خطر من الممكن أن يحصل.. كان منظرهم يثير الرهبة فعلاً.

سمعت صوت القطار، فعرفت أنني اقتربت من المنطقة.. إنه الليل، لكنني اهتديت بفضل الله على صوت القطار، وبدأت معالم السوق تظهر لي من بعيد..

الحمد لله، أنا في أمان الآن.. منظر المومسات مبهج ومفرح الآن.. يحتاج المرء إلى حضن بعد هذا الموقف، والمومسات لا أظنهن سيمانعن، لكن ليغتسلن أولاً.

يأتي الصباح، وتبدأ جولتنا في المستشفى إلى وقت العصر؛ حالنا المعتاد الرتيب كل يوم.. ولكن يوم الجمعة كان مختلفاً.. اليوم لا مستشفى ولا هم يحزنون.. قررنا أنه علينا الاستفادة من يومنا هذا أفضل الاستفادة.. مكتب السياحة سيفي بالغرض، دفعنا مبلغاً مناسباً، ثم ركبنا باصاً أخذنا إلى رحلة ترفيهية.

في الطريق رأيت أكواماً من التلال البيضاء، مصفوفة لكيلومترات عديدة.. سألت فقيل لي إنها ملح، يتم استخراجه وبيعه، بل وتصديره إلى بلاد أُخر كذلك.. يا ألله! كل هذا الملح وطعامكم بهذه الرداءة؟.. لا يعجبني الطعام التايلندي، وأشعر دائما أنه ينقصه الملح.. قلت بيني وبين نفسي: لعل ملحهم ليس مالحاً بالقدر الذي اعتدنا عليه في بلادنا، أو لعل الخلل في حاسة التذوق عندي أنا، إذ لم أر من يشتكي من هذا الأمر غيري.

ذهب بنا الباص في ربوع تايلند، فإذا بنا أمام جنة جميلة؛ مزارع وخضرة وأنهار تخلب الألباب.. ليست بجمال سريلانكا التي زرتها فيما بعد، لكن ما أدراني بتايلند؟ أنا الذي لم أزر منها سوى بانكوك، أما سريلانكا فقد زرت مناطق كثيرة منها.

في تايلند زرنا السوق المائي، حيث ركبنا قاربين، وتجولنا في النهر، ومن حولنا وقف البائعون ينادون بسلعهم.. هناك محلات عبارة عن أكواخ منتصبة على أطراف النهر، وهناك محلات عبارة عن قوارب مثل قاربنا، يلحق بك البائع يبيعك بضاعته بإصرار.

أوصانا سائق القارب بشراء بعض الحبوب فاشترينا، ثم انطلقنا إلى منطقة بعيدة، وهناك بدأنا نرمي الحبوب في ماء النهر، فإذا بالأسماك لا ندري من أين تأتي، تثير أمواجاً عاتية في النهر، لدرجة رجَّت القارب، في مشهد مبهج جميل بحق.. كررنا رمي الحبوب فترة حتى نفدت.. عدنا من جديد إلى الباص، وهناك تلقفنا بعض التايلنديين يبيعون لنا صورنا وقد التقُطت في مواضع مختلفة ونحن نتجول في القارب.. هم يعرفون كيف يغرونك في الشراء!

ذهبنا بعد ذلك إلى بيت الأفاعي، وهناك رأينا عرضاً مبهراً لرجل يتعامل مع الأفاعي بجرأة كبيرة، مؤكِّداً أنها سامة، فقد عصر فمها وأخرج عصارة السم من بين أسنانها قبل عرضه.. بعد ذلك قام ومرر الأفعى لنا لنسلمها.. البعض لنتحسسها، والبعض ارتدَّ فزعاً.. أنا لمست جلدها، أما أخي فقد تجاوز مسألة اللمس، ووضع الأفعى على كتفيه.

خرجنا فتلقفنا بعضهم يبيعنا صورنا.. هذه المرة ليست مجرد صور، بل صحون تذكارية والصورة في قلبها.. يتفننون في إغرائك لتشتري!

رفض من معي ركوب الفيل، لكنني أصررت على ركوبه، فركبت ورافقني توفيق.. كانت تجربة رائعة لن تتاح لنا مستقبلاً، وقد أُتيحت لي الفرصة ثانية في سريلانكا، لكن في سريلانكا كان الركوب جماعيًّا، بعكس تايلند، ركبنا فقط شخصان.

أغراني سائس الفيل وباعني حجراً، وقال إنه العاج.. اشتريته بغباء، ثم حينما عدت إلى الفندق سقط الحجر من يدي على الأرض، فتكسر فُتاتاً من فوره.. أي عاج هذا يا أحمق؟!

لم نستكمل الرحلة، إذ إن ابن أختي المريض بدأت حالته الصحية تتدهور من الرحلة، فاضطررنا للعودة.. على العموم كان ما رأيناه يكفي.

في اليوم التالي عدنا إلى روتين الزيارة اليومية في المستشفى.. وعند عودتنا عصراً قررنا أنه قد حان الوقت لبعض السباحة في مسبح الفندق.. هو في الطابق السادس حسبما أذكر، وكان الجو جميلا، ووقت اختيارنا للسباحة كان ملائمًا، إذ لم يكن المكان مزدحماً؛ فقط نحن، ورجل لا أذكر جنسيته تعرَّف لتوه على فلبينية في المسبح، احتضنها، وغادرا لن أخبرك إلى أين.

أنهى الجميع فترة علاجهم في المستشفى، ولم يبق سوى أبي.. عادوا هم إلى الديار، وبقينا أبي وأنا أسبوعاً آخر في تايلند نستكمل فيه العلاج، وبطبيعة الحال كان نسيبي متابعاً لعلاج ابنه.. أسبوع آخر ثم آن أوان العودة.

في إحدى المرات قبل رحيلنا، كنت أتجول في سوق (نانا ـ 4)، أحاول شراء بعض الهدايا، فمررت على بضائع كثيرة.. من المؤكد أنني لن أشتري تمثالاً يشبه البراز، وآخر يشبه أمراً لن أكتبه هنا، وثالثاً يشبه …، ورابعاً يشبه …، هذه الهدايا لن أشتريها ما دمت أملك عقلاً.. بعد جنوني إذا زرت تايلند مجددا، ذكروني أن أفعل.

مر أمامي بائع متجول يعرض عليَّ بعض النظارات، لكنني لم أكن بحاجة إلى نظارات، غير أنه كان مصرًّا بطريقة غريبة، وأنا عنيدٌ إذا قلت لن أشتري معنى ذلك أنني لن أشتري.. في النهاية قال لي لا تشترِ، ولكن جربها.. غير أنَّ عنادي كان أكبر من أن أجاريه، فتركته ناشداً إياه أن يتركني في حالي.. حينما حكيت القصة لأحدهم، ضحك وقال إنني غبي؛ هذه النظارات تخترق الملابس، وتستطيع بها أن ترى أجساد النساء عارية..

يا رجل، لماذا لم تخبرني بهذا من قبل؟!

من بين البضائع التي عُرضت عليَّ مصباح ليزر طاقته 30 مللي واط، وهي طاقة كبيرة مقارنة بما هو مسموح بيعه، إذ لا يتجاوز المسموح به على حد علمي 5 مللي واط.. كان المصباح غالياً، لكن الفضول كان أقوى من أن أتركه، خاصة وأنه يُطلق أشعته بطريقتين؛ واحدة خط إشعاعي طويل مستقيم، والثانية عبارة عن مجموعة من الخيوط المتفرقة، يمكنك أن تدير رأسه فتتشكل لك زينة مبهرة.. اشتريته، ثم اتضح لي أنه مكسور الأطراف.. لقد خدعني البائع، لكنه ما زال يطلق ضوء الليزر، ولم أندم عليه.

في اليوم التالي زرت السفارة العمانية في تايلند.. ركبت سيارة الأجرة، فإذا بسائق طريف أضحكني، دار بيني وبينه هذا الحوار:

ـ أنت ذاهب إلى سفارة عُمان، إذن أنت عُماني

ـ أجل، عُماني

ـ أنا كنت في الرياض قبل ثلاث سنوات، عشت فيها سنتين ثم عدت.. الرياض قريبة جدًّا من عُمان

ـ بل بعيدة، نحتاج إلى أكثر من عشر ساعات لنصل إليها

ـ كيف؟ إن الإمارات ملاصقة مع عُمان!

ـ الرياض ليست في الإمارات

ـ الرياض عاصمة الإمارات.. أنا عشت فيها سنتين كما أخبرتك

ـ وما كانت وظيفتك هناك؟

ـ كنت أعمل في المطار.. لم أرَ المدينة أبداً.. أول وصولي من تايلند إلى المطار مباشرة، لم أخرج من المطار طيلة العامين.. جلست هناك، عملي كان في المطار وكذلك سكني.. هناك سوق في المطار أشتري منه احتياجاتي.. لم أخرج من المطار سوى مرة واحدة، تمشيت فيها على شاطئ البحر لساعتين، ثم عدت من جديد إلى المطار.. وحينما أنهيت خدماتي، صعدت الطائرة وعدت إلى تايلند

ـ تمشيت على شاطئ البحر في الرياض؟!

ـ نعم.. كان المكان جميلاً.. أحببت الإمارات كثيراً

ـ لكن لا يوجد بحر في الرياض.. الرياض عاصمة السعودية، وأبو ظبي عاصمة الإمارات

ـ أبو ظبي بعيدة جدًّا.. أنا عشت في الرياض.. كبير في السن أنا، لكن عقلي ما زال في صحته

لم يكن كبيراً في السن إلى ذلك الحد، لكنني أجزم لو أنني تتبعت تاريخه، سأجده قد عمل في القاهرة عاصمة السودان، ولعل البحر الذي رآه لم يكن سوى نافورة عند بوابة المطار.

عموماً، وصلت مبنى السفارة، وهناك ختموا لي على شهادة من المستشفى تثبت وجودي مع والدي للعلاج.. بعدها بأيام، كنت أنا وأبي في مطار تايلند، نتأهب للعودة إلى الديار.

كنت أعلم أن موظفي المطار لن يسمحوا لي بالمرور وقلم الليزر معي.. أجهزتهم ليست غبية، وكان التحدي قويًّا، وقررت المجازفة..

قمت بتفتيت أجزاء الليزر قطعة قطعة، ووضعت كل قطعة في حقيبة؛ حتى إذا عثروا على جزء لن يعرفوا كنهه، ما دام منفصلا عن البقية.. وبالفعل مرت كل الحقائب بسلام، إلاَّ حقيبة واحدة، أصدرت صوت إنذار..

خفق قلبي.. لقد كشفوني.. أنا أحمل ممنوعات!

اثنان من الموظفين فتشا الحقيبة، قلباها رأساً على عقب، مضت فترة طويلة وأنا أدعو الله ألاَّ يكشفا أمري، لكنهما في النهاية عثرا على أداة الجريمة؛ قطعة زجاجية من أجزاء الليزر، كانت هي المصباح الذي منه تنطلق الأشعة الليزرية، قلبها أحد الموظفين بين أصابعه، وجلس يتشاور مع زميله عنها، لكنهما في النهاية أرجعاها إلى الحقيبة بسلام..

الحمد لله، لم يعرفاها.. لكن من قال ذلك؟ هو ذا أحد الموظفين يغمز لي بعينيه.. تبًّا، لقد عرفها، لكنه تجاوز الأمر مشكوراً.. ابتسمت وأكملت إجراءات السفر.

أقلعت الطائرة، وانطلقنا عائدين إلى عُمان، وسؤال يراودني: لقد كشف التايلنديون وجود الليزر وتجاوزوا عنه، في مطار السيب (مطار مسقط حاليًّا) لا أظنهم سيتجاوزون عن الأمر.. ما العمل الآن؟

سيكشفون الأمر بلا شك، وكان يجب أن تكون عندي إجابة مقنعة: أنا فني مختبرات، وأحتاج إلى مثل هذا الجهاز.. لو شئم تصريحاً قد أُحضره لكم من وزارة التربية والتعليم.. أما كيف أحضره، فسوف أفكر بالأمر لاحقا.

لكن الذي جرى في مطار السيب أبسط من ذلك تماماً.. حينما كنا نجتاز جهاز الفحص، كان المسافرون يضعون حقائبهم في أجهزة الفحص، ويستلمونها في الطرف الآخر، ولكن لم يكن هناك موظف واحد أمام الجهاز.. الذي فعلته أنا ببساطة أنني لم أضع حقيبتي في الجهاز، واجتزت البوابة واضعا حقيبتي في المكان الذي توضع فيه عادة المحفظة والهواتف، ثم حملت حقيبتي ببساطة، وأكملت طريقي دون وجود موظف واحد للتفتيش.

الجريمة قد تمت بسلام.. لا تبلغوا أحدا عن الأمر رجاء!

بعد هذا الأمر كله، أين هو جهاز الليزر الآن؟

أرجوكم لا تسألوني، منذ متى أحتفظ بأشيائي أنا؟!

كان أخي عند بوابة المطار ينتظرنا صعدنا سيارته، وانطلقنا في رحلة برية أخرى إلى خصب، استغرقت ست ساعات أخرى، وفي الطريق كنت أتأمل رحلة تايلند هذه، وجال في بالي خاطر غريب؛ ماذا لو وُجد مكان في هذا العالم، مسموح فيه ارتكاب كل جرائم الدنيا، لا عقاب ولا حساب ولا رقيب يمنعهم من ارتكاب أي جريمة يمكنك أن تتخيلها؟!.. مكان يأخذ الشيطان كل راحته، يلهو بالبشر؛ عقولهم وقلوبهم؛ شهواتهم ورغباتهم، نزواتهم وجنونهم..

عدت إلى خصب، وبدأت هناك أكتب رواية بهذا المعنى، صدرت عام 2016م في دار سما الكويتية..

الرواية عنوانها: الشيطان يلهو!

الشيطان يلهو

آخر المقالات

مقالة: الحرب العالمية الثالثة، بقلم: محمد قرط الجزمي
الحرب العالمية الثالثة
الحقيقة (وهذا رأيٌ شخصيٌّ، أكثر منه قول خبير) أنه ليس هناك احتمالٌ لاندلاع حرب عالمية ثالثة قريبة؛ لأن العالم - ببساطة - غير مستعد لهذه الخطوة، ولأن العصر الذي نعيش فيه الآن يجعل نشوب حرب كبرى كهذه خسارة فادحة على الجميع، في ظل شعوب تهدف إلى التطور ...
قراءة المزيد
مقالة: هكذا علمتني الهجرة النبوية الشريفة/ بقلم: مياء الصوافية
هكذا علمتني الهجرة النبوية الشريفة
عندما يكون الدين هو الوجهة الأولى لفكر الإنسان، والمحرك الأسمى لتكوين الدولة ذات المنهج الصحيح، والتنظيم الساعي لحماية كرامة الإنسان دنيويا وأخرويا؛ لأجل هذا كانت الهجرة النبوية الشريفة؛ هجرة النبي الأكرم محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم) من مكة ...
قراءة المزيد
الانترنت، شاغِلُ الناس وخادِمُ اللذات/ لقلم: هند سيف البار
الانترنت، شاغِلُ الناس وخادِمُ اللذات
تفَقُّد هواتفنا المحمولة هو أول ما نفعله عادةً بعد الاستيقاظ من النوم، بُغية معرفة الوقت، لكن ينتهي بنا الأمر في أحيان كثيرة إلى استعراضِ جميع مواقع التواصل، والردِّ على كل صديق وغريب، والثناءِ على مجموعةٍ من الصور وذمِّ أخرى، وتأييدِ فكرةٍ ومعارضةِ...
قراءة المزيد
وضع ضفدع في قدر به ماء يغلي
الضفدع في الماء المغلي
هنالك تلك القصة المأساوية عن الضفدع المسكين الذي وضعه العلماء في قِدْرٍ به ماء، فبقي مستقرًا مكانه، ثم إنهم بدأوا يغلون الماء فارتفعت درجة الحرارة ببطء، لكن الضفدع بقي مكانه لم يتحرك، زادت الحرارة حتى وصلت إلى درجة الغليان.. مات الضفدع ولم يقفز من م...
قراءة المزيد
هل تمانع أن نلتقط صورة معاً؟/ بقلم: محمد قرط الجزمي
هل تمانع أن نلتقط صورة؟
نفرح كثيراً حين تقع أيدينا على صور قديمة لمنطقتنا، أو لأنفسنا وأهلينا، ذلك أنه قديماً لم تكن ثقافة التصوير حاضرة، والكاميرات اختراع نادر، ثم حينما وصلت الكاميرات صار الناس يستخدمونها إما على استحياء، أو على خوف.لهذا قليلة هي الصور التي نملكها عن المن...
قراءة المزيد
أسرار الأبواب الخلفية/ بقلم: محمد قرط الجزمي
أسرار الأبواب الخلفية
في فرنسا المحتلَّة، أيام الحرب العالمية الثانية، دخل جنديٌّ ألمانيٌّ مقهىً يحمل اسم ”الملاذ الصغير“ (Le Petit Refuge)، وجلس يحتسي القهوة، فسأل: «لماذا لديك باب خلفي في المقهى يا هنري؟»، أجابه هنري دوبوا، صاحب المقهى: «لإخراج القمامة يا سيدي، فليس من ...
قراءة المزيد
المسرح يتكلم كلَّ اللغات/ بقلم: محمد قرط الجزمي | مهرجان المسرح العربي
المسرح يتكلم كلَّ اللغات
اللغة المهيمنة في المسرح دائماً، من جهة الجمهور، هي لغة التأويل.وإذ نتحدث عن التأويل المسرحي فإننا نتحدث عن شكل من أشكالِ التأويلِ معقدٍ بعض الشيء، فأنت تُؤول كل أداة من أدوات المسرح على حدة، تأويلات مختلفة، ثم تجمع تلك الأدوات في قالب واحد وتخرج بتأ...
قراءة المزيد
ماكينة الخياطة التي أنقذتني/ بقلم: ولاء عبد الرحمن | حلم ماكينة الخياطة/ بقلم: بيانكا بيتسورنو | ترجمة: وفاء عبد الرؤوف البيه
ماكينة الخياطة التي أنقذتني
في إحدى قرى ومدن جنوب إيطاليا، وفي زمن بين الحربين العالميتين، تدور أحداث هذه الرواية.بيانكا بيتسورنو كاتبة إيطالية تشتهر بكتابتها للأطفال والشباب، وتعتبر من أهم المؤلفين في هذا المجال. ولدت في الثاني عشر من أغسطس عام ١٩٤٢، في مدينة سسارة. درست علم ا...
قراءة المزيد
تحت ظل الظلال/ محمد قرط الجزمي - ولاء عبد الرحمن
إلى متى سنسمح للظلال بأن تتحكم بنا؟!
بين براعة الكاتب، وسعة اطلاعه، والتشويق والإمتاع في الأسلوب، تنبثق هذه الرواية العظيمة. رواية من أدب الخيال العلمي، ستتفاجأ أن كاتبها عربي، وتحديدًا من سلطنة عُمان. رواية تتجاوز صفحاتُها الستمائةَ صفحة، صدرت عام 2022م، من إصدارات دار الفكر.تدور أحداث...
قراءة المزيد
جذور التربية مرة، ولكن ثمارها حلوة/ بقلم: مياء الصوافية
جذور التربية مُرة، ولكن ثمارها حُلوة
عنونتُ مقالي بهذا القول المشهور؛ فجذور الشجر في الغالب مُرة، ولكنها مع مرور الزمان تنمو شجرا مباركا يؤتي أكله طيبا حيثما كان ويكون.كذلك هي تربية الأبناء تحتاج من الجهد الكثير، ومن الصبرِ والحلمِ سعةٌ حتى تشب سواعدهم، ويظهروا على ساحات مجتمعاتهم بانين...
قراءة المزيد
حتى أنت يا بروتس؟!/ بقلم: محمد قرط الجزمي
حتى أنت يا بروتس؟!
بيتُ شعرٍ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول فيه:إنما الدنيا كبحرٍيحتوي سمكاً وحوتليس لمجرد أن البحر جميل وفيه سمكٌ لطيف، معنى ذلك أنك ستنزل فيه تسبح وتستمتع كأنك في الجنة، كلا، ثمة حيتان من الممكن أن تأكلك من الخطأ أن تأمنها، إنَّ نظريتك في أن الحوت...
قراءة المزيد
فجلست تبكي معي/ بقلم: محمد قرط الجزمي
فجلست تبكي معي
يقال إنه حين تقابل موجوعاً في مشاعره، لا تحادثه بالعقل ولا بالمنطق، بل المواساةُ المطلوبةُ هي أن تحدِّثه بلغة القلوب؛ لمسةٌ حانيةٌ أو أذنٌ مصغيةٌ، وربما لو تنهَّدتَ في حضرته لارتاح قلبُه مع سماعه لتنهيدتك، إذ سيشعر أن هناك من يحس بألمه، وهذا يكفيه.إن...
قراءة المزيد
لا تكن مثقفاً أكثر مما يجب بقلم محمد قرط الجزمي
لا تكن مثقفاً أكثر مما يجب
الثقافة، بمعناها المادي، ليست درجة علمية كالأستاذية والدكتوراة، وليست درجة تعليمية يحصل عليها المرء فيتباهى بها، إنما هي صفة شخصية فردية، مستقلة عن محيطه، يتصف بها الفرد فتظهر في سلوكه.. أقول ”مستقلة عن محيطه“ وأعني بها عدم التبعية، وليس الانعزال عن ...
قراءة المزيد
تسويق وبيع الثقافة في السوق السوداء بقلم آية سامي الشيخ
‎⁨تسويق وبيع الثقافة في السوق السوداء⁩
* نظرة نقديّة..عزيزي القارئ أعتذر مقدّماً عن خيبةِ أملك بالثقافةِ المعاصرة..ثقافتنا اليوم لزجة سريعة الانزلاق، قوامها زيتي معدوم المقاومة، من سار على أرضيّتها انزلق، ومن غاصَ فيها غرق؛ لكنّي لستُ ممن يؤمنون بالتعميم، أؤمن بالقلّةِ القليلة الصّادقة، ا...
قراءة المزيد
المجتمعفوبيا بقلم: آية سامي الشيخ
المجتمعفوبيا
الإنسان كالبحر، كالأرض، كائن مليء بالأسرار، إذا غُصت في أعماقه كباحثٍ ستجد كنوزاً ثمينة؛ أو ربّما أوطاناً مدمَّرة..ولا بدَّ من ترميم تلك الأوطان بأيادٍ خبيرة وفذة؛ لتزيل الدمار وتضع أساساً قويّاً متيناً من جديد، وهنا يأتي دور الصحّة النفسية..إنَّ الأ...
قراءة المزيد
مطحون يأكل من الدهر ويشرب/ محمد قرط الجزمي
مطحونٌ يأكل من الدهر ويشرب
جرى حوار بين رجل مطحون وغراب.المطحون يسأل: «ما فائدة وجودنا في هذه الحياة؟»، فيجيبه الغراب: «إننا نحيا كي نستمتع»، فيقول المطحون بلسان حاله: «كيف؟ هذا صعب، الحياة مقيتة جدًّا، والألم لا يتوقف مع مرور الزمن، فمن سرَّه زمنٌ - كما يقول أبو العتاهية في ش...
قراءة المزيد
ثقافة أن تأكل مثل الآخرين/ محمد قرط الجزمي
ثقافة أن تأكل مثل الآخرين
الأكل ثقافة محترمة، مثله مثل الفكر والفنون والرياضة، بل إن ثقافة الأكل تفوق في بعض الأحايين بقية الثقافات الأخرى، ونلاحظ ذلك في كثرة المطاعم مقارنة مثلاً بالمكتبات والمؤسسات الثقافية، بل إن المحاضرات والندوات تعقبها دائماً جلسات أكل، وكثير من اجتماعا...
قراءة المزيد
القارئ أنانيٌّ بطبعه/ محمد قرط الجزمي
القارئ أنانيٌّ بطبعه
الأنانية صفة سيئة، تجعل المرء يفكر في نفسه فقط على حساب الآخرين، هي لا تشبه الطموح والمنافسة في شيء، الطَّموحون والمنافسون ينفعون أنفسهم ويَسْمُون بإنجازاتهم، لكن الأناني يصعد على أكتاف الآخرين؛ يسيء إليهم، وقد يضرهم، فقط من أجل أن يتفوق هو ويعتلي من...
قراءة المزيد
حيلة الأنا/ جوليان باغيني
قليل من الفلسفة لن يقتلنا!
كتب الفيلسوف الإيرلندي، الأسقف بيركلي، ذات مرة قائلاً: "أثار الفلاسفةُ غباراً، ثم اشتكوا من أنهم لا يستطيعون الرؤية".وقد زادت آثار خطوات علماء النفس والطبيعة وعلماء الدين وعلماء الاجتماع أيضاً من كثافة سحابة الغبار التي تحجب نظرتنا للذات، فالذوات كال...
قراءة المزيد
محمد قرط الجزمي
تحت ظل الحياة والموت معاً
[فضفضة شخصية خاصة]هذا العام نكسة روحية ومادية في حياتي.أنا أكثر الناس إيماناً وتفاؤلاً بالحياة، رغم شظف العيش وسوء الحال، لكن من منا لا يلاقي مطبات في حياته توقفه بين الحين والآخر؟.. اعتدتُ أن توقفني الكثير من المطبات، لكن كلها تمضي مع الزمن كأنها لم...
قراءة المزيد
شعور من نور
شعور من نور
"الضوء الباهر يصرع نوازع الشر" نجيب الكيلانيلا أعلم هذا الشعور الذي يقودني إلى لا شيء... ما زال متشبثا بثوب النور، حتى حين يُرمى بالظلام، إنه يقف على حافة المجابهة، لكن تفكيره ما زال قابعا ومنزويا تحت ظل النور، يزرع الحِلم بماء الضمير؛ فيتقهقر متراجع...
قراءة المزيد
رواية: ذئب البراري هرمان هيسه
ثنائية الإنسان والذئب داخل الكيان البشري
"هذا المسرح السحري للمجانين فقط، ثمن دخولك.. عقلك".كم جرعة من المعرفة تلزم الإنسان ليحقق كينونته أثناء إقامته على الأرض؟وهل الإدمان ضررٌ محضٌ، حتى وإن كان هوساً بالثقافة والعلم والفنون؟ألا يمكن أن تكون السعادة في الضفة الأخرى من عزلة المثقف؟ألا يمكن ...
قراءة المزيد
كتاب: كل شيء لم أخبرك به
كان يجب أن تتزوجي شخصاً أكثر شبهاً بك
العنوان: كل شيء لم أخبرك بهالكاتبة: سيليست إنجالمترجمة: إكرام صغيريدار النشر: دار كلمات للنشر والتوزيعالتقييم: خمس نجومنبذة:طوال الوقت الذي عاشاه معًا، كان الأبيض لا يعدو أن يكون مجرد لون للورق، والثلج، والسكر. وكانت نسبة شيء ما إلى الصين -إذا حدث وأ...
قراءة المزيد
الأصل دان براو ن
المراجعة الثانية لرواية الأصل
هذه المراجعة نتاج قراءة جماعية لمجموعة«مائدة الكتب»يستمر دان براون الإبحار بنا في رحلة التشويق من خلال بطله الدائم للسلسله؛ البروفيسور (لانجدون)، أستاذ الرموز بجامعة هارفارد، وهذه المرة من خلال حل لغز جريمةٍ تقع في حفل أقيم في متحف الفن الحديث بمدينة...
قراءة المزيد
العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق أفريقيا
التاريخ، محطات نفخر بها
«التاريخ العُماني،..» هكذا وصفته الدكتورة هدى الزدجالية وهي تهديني كتابها، «محطاتٌ نفخر بها، منها سلطنة زنجبار».صدر كتاب "العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق أفريقيا" للدكتورة هدى الزدجالية، بطبعته الأولى عام 2021، عن الجمعية العمانية للكتَّاب وا...
قراءة المزيد

ذات أفنان

تابعونا حتى تصلكم أخبارنا