معادلة صعبة في حياة كلٍّ منا، وما يثير الجنون أننا مرغمون على تخطيها: إما أنت، أو أنت.. عليك الاختيار.
أما ‹أنت› الأولى، فهي تلك الخطوط التي رُسمت لك، أو التي رسمتها أنت على حدود المتاح.. هذه الخطوط تتضمن: أسرتك، عملك، حاضرك، مستقبلك المفترض، البيئة التي تعيش فيها، الزمان والمكان، معتقداتك، عاداتك وتقاليدك، شخصيتك، سلوكك، أخلاقك، حتى اسمك ولقبك وكل ما يحيط بك، بل حتى مكانتك الاجتماعية.
أما ‹أنت› الأخرى فخطوطٌ جديدةٌ رسمتها بنفسك لم يرسمها لك أحد.. خطوط غير واضحة المعالم، في مظهرها الخارجي باهتة لكنها واضحة تماماً في خلايا عقلك، ليست مضمونة غير أنك تراها تحمل من النتائج الكثير.. هي طريق إلى الجنة، مشكلتها الوحيدة أنها على الحافَّة، قد توصلك إلى منتهاك، أو قد تسقط بك إلى نهايتك.
كثيرون تمر عليهم هذه المعادلة، بين «أنت» و «أنت»، فيختارون الأولى، إذ ما أجمل الاستقرار!.. اختيارهم ليست فيه مخاطرة ولا يقود إلى المهالك، يحفظون أنفسهم وأبناءهم وأهليهم، وكلَّ ما يحيط بهم، قلَّة هم الذين يختارون ‹‹أنت›› الثانية.
الحياة نهر، قصيرٌ للبعض، طويلٌ للبعض الآخر.. هادئٌ للبعض، هائجٌ للبعض الآخر.. كلنا نتبع تيار هذا النهر الجاري؛ إذا سار مستقيماً نسير معه، إذا انحرف ننحرف معه، وإذا ارتطم بصخرة ارتطمنا مثله، ويمضي بنا التيار لا ينتهي حتى نصل إلى مصبِّه، أو إلى شلال يرمينا إلى بحيرة أو نهر آخر، وتستمر الحياة.. هؤلاء هم نحن الذين اختاروا ‹‹أنت›› المستقرةَ الأولى.
أما القلَّة الذين يختارون «أنت» الخطيرةَ، فمتمردون على الحياة، قرروا أن يصنعوا لأنفسهم ‹أنا› جديدة غير التي قُرِّر لهم أن يكونوها، بعضهم سبحوا ضد تيار النهر، وبعضهم حاول الانحراف عن المسار كي يصلوا إلى الضفة أو إلى الشاطئ، يرتطمون بالبشر، يرتطمون بالأشياء؛ أشياء مألوفة وأشياء غريبة، وأُخر باهتة.. بعضهم يُكسرون فيستسلمون ويعودون إلى مجاراة التيار، وبعضهم يستمرون في خوض غمار تحديهم، قد يصلوا إلى الضفة الأخرى، وقد يسقطوا من على حافة الطريق إلى الهاوية فيهلكوا.
الذين اختاروا ‹‹أنت›› الأولى ماتوا، لم يعد لهم ذكر ولا تاريخ، ولم يصنعوا للبشرية شيئاً.. والذين حاولوا واستسلموا كأني بهم شرارة، لفتت الانتباه إليها برهة، ثم لم يلبثوا أن غابوا في تيه النسيان.. وأما الذين حاولوا ولم يصلوا، أو حاولوا ووصلوا، فهؤلاء الذين صنعوا لنا التاريخ، هم من رسموا خطوطاً لم نكن نعرفها، هم الذين لوَّنوا الدنيا من حولنا بألوان لم نكن نراها في الماضي، هؤلاء تعلمنا منهم كيف نكتشف أنفسنا والبشرَ من حولنا، وصحَّحنا بهم مفاهيم كانت غائبة عن أعيننا ومفاهيم أُخر كنا نراها بلون فأصبحت بلون آخر.. هؤلاء بهم عرفنا أنفسنا، عرفنا قدراتنا، وعرفنا الخلق من حولنا، وبهم عرفنا الله.
هم من خاضوا التحدِّي، ليس مهمًّا وصلوا أو لم يصلوا، المهم أنهم خاضوا النهر، وتسلقوا الجبال لم يتهيَّبوها، ولم يكتفوا بالحُفر التي عاش فيها من عاش، أو بالأحرى مات فيها من مات.
هناك حدود من حولنا، صنعها الإنسان نفسه، أو هي موجودة في الطبيعة، التحدِّي الحقيقي أن نتجاوز هذه الحدود، عندها لن نتغير نحن فقط، إنما سيتغير كل شيء من حولنا، الدنيا بأكملها ستتغير.
البعض يتهيب الاقتراب من هذه الحدود، الخوف يحبسه عن أن يتقدم، فكرة الفشل تؤرقه، فيقرر أن يستكين دون أن يغير من قصيدة واقعه حرفاً واحداً، لكنه لا يدرك أنَّ ليس في الدنيا شيء اسمه ‹فشل›، بل إنسان اسمه ‹فاشل›، والفاشل ليس المنهزم، إنما الذي ينكسر حينما ينهزم.
الهزيمة بحد ذاتها لونٌ من التحدي، يقول عنها عندليب الصحافة محمود عوض، في كتابه (أفكار ضد الرصاص): ‹‹إن أيَّ هزيمةٍ إمَّا أن تصيب الإنسانَ بالشلل، أو تدفعه إلى الحركة››.
الحياة مليئة بالتحديات، كل ما علينا هو قبول التحدي ونبذ الخوف.. قد نقع، قد ننكسر، قد نصاب، وربما نموت، لكن ليكن لدينا يقين أن الشيء الذي يموت فينا ليس جذع الشجرة، إنما غصنها، وهو ما يلبث أن ينمو من جديد.. ثم حتى وإن لم ينمُ، ليس مهمًّا إلى هذا الحد موتُ غصنٍ مقابل أن تحيا أغصان أُخر في حياتنا، أو حتى في حياة غيرنا إذا نحن متنا بالفعل.
المؤسسات تُبنى على أسس التحدي، والتاجر يبدأ تجارته بالتحدي، والرسام يبدأ بها، والكاتب مثلهم، حتى الدول على ما هي عليه من قوة أو من ضعف، إنما مسيرتها تبدأ بالتحدي.. إن الدولة التي ترفض التحدي تتقهقر وتنزوي، فتسودُ تلك التي تتقبله لتتحول مع الزمن إلى دولة عظمى.
تذكَّر المعادلة جيداً: إمَّا أنت المرسوم، أو أنت الراسم.. هو اختيارٌ ممزوجٌ بين عقلك وقلبك، كلاهما يجب أن يكون له صوت، وعليه لا تسمح لأحد أن يختار لك، وليس عليك الانقياد إلاَّ إلى من تؤمن به إيماناً مطلقاً.. آمن بالفكرة، وليس بالنتائج.
ولا تنسَ أن تتوقَّع الأسوأ، توقع أنك قد لا تصل، وامزج توقعك هذا بالكثير والكثير ثم الكثير من الأمل والتفاؤل في أنَّ وصولك، أو عدم وصولك، فيه الخير، إما لك أو لغيرك.
يتحدث الدكتور أحمد خالد توفيق عن مثل هذا فيقول: ‹‹هناك في حياة كل إنسان لحظةٌ يكون عليه فيها أن يضع حياته ومكاسبه مقابل هدف غير مؤكد، ومن يرفض هذا التحدي يكون مجرد طفل كبير لا أكثر››.
التعليقات ()