في حوار قديم بيني وبين أحد زملاء العمل، سألني: هل القراءة واجبة في ديننا؟
ما ينبغي لمثلي أن يفتي في هذا، على أنني نظرت إلى حدود خلفيتي العلمية والعقلية، فأجبته أنني لم أقرأ قطُّ من يقول إن القراءة واجبة، نعم هناك حثٌّ عليها، ولكن ليس ثمة نصٌّ بالوجوب أو الفرض والإلزام.. فعليه كان جوابي أن القراءة شيء مستحبٌ ومستحسنٌ اجتماعيًّا وثقافيًّا.
صُدم من جوابي، وكان يتوقع مني تأكيداً على وجوب القراءة، وأنه فرضُ عينٍ على كل مسلم ومسلمة، فمن أولويات أهداف الكاتب أن يحث على القراءة، ثم إن هناك نصًّا صريحاً في القرآن الكريم يُثبت وجوب القراءة، وهي أول كلمة أُنزلت: ﴿اقرأ﴾.. هنا فعلُ أمرٍ صريحٍ مباشرٍ بالقراءة.
من أنا لأُفتي؟ أتحدث من نطاق حواف ثقافتي المحدودة، وأما عن الآية فليست دليلاً قاطعاً، وبحثتُ فلم أجد من علماء التفسير والدين من يفسرها على أنها موجبة للقراءة، ولو كانت واجبة لأسرع النبي الأمي إلى تعلم القراءة والكتابة، لكنه لم يفعل.. إنما الآية فعل أمر من باب الاستحسان، ثم إن كلمة (اقرأ) لغويًّا لا تعني بالضرورة أن تمسك كتاباً وتقرأ، يكفي أن تردد شيئاً تحفظه فهذه قراءة، وهذا ما كان المسلمون يفعلونه مع القرآن، يقرؤونه وهم أميون.
يحدثني زميلي أنَّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، والقراءة هي منبع العلم الوحيد في زمننا هذا، وبدونه نأثم بترك فريضة إسلامية، فأقول له إن العلم المفروض هو أساسيات الدين؛ عقيدةً وفقهاً، وذلك كي نعبد الله على بصيرة، وليس العلمَ المطلقَ، وهذه الأساسيات يمكن تعلمها بحلقات علمية مع رجال الدين، وليس ضروريًّا بقراءة الكتب.
ثم إذا جئنا نتحدث عن الثقافة، من قال إن القارئ هو المثقف وغير القارئ جاهل لا يفهم ولا يستوعب الحياة؟ لقد مررنا ببشر لا يعرفون القراءة والكتابة، إذا حاورناهم وجدنا فيهم من الفهم والمعرفة والإدراك ما يعجز عنه أكبر مثقفي الدنيا.. الحياة هي المعلم الأول للإنسان، وليست الكتبُ إلاَّ نتاج تعاليم الحياة، يستقي منها الكاتب فهمه وإدراكه ثم يرمي بهذا النِّتاج إلى كتبه ليتعلمها القراء.. فالمعرفة والعلم نتعلمهما من الحياة أولاً، وليس من الكتب بالضرورة، بل إن كثيراً من المنعكفين على القراءة ليسوا سوى أذكياء ومثقفي كتب، فإذا عاركوا الحياة عركتهم، ولا ينقذهم منها سوى ذلك الأمي الذي فهم الحياة أكثر مما فهموها.
مقالي هذا ليس نبذاً للقراءة، ولا تحريضاً على رمي الكتب وغلق المكتبات، ولست أدعو إلى إحراق الكتب ولا تهجير الكُتاب.. بل أكتب كي أنبه أولئك الغافلين الذين كل حياتهم متقوقع في القراءة فقط فأهملوا واقعهم، حجتهم أننا نرى الحياة جميلة في الكتب مقارنة بالواقع المؤلم.. بالله عليكم أليس هذا الوصف ينطبق على المخدرات والمسكنات التي تأخذنا عن واقعنا لترمي بنا في مجاهل الغياب؟
القراءة علم ونور وبصيرة وضياء تستنير بها العقول، نفهم من خلالها الحياة على حقيقتها، ونسبر بها عقول الآخرين فندمج أفكارهم بأفكارنا لنخرج بأفكار جديدة نتطور بها، فدعونا لا نُحيلها تغييباً وتهجيراً عن الواقع المعاش.. القراءة مثلها مثل الأحلام؛ بعضها نورٌ وبصيرةٌ، وبعضها تأملٌ وتفكُّرٌ، وبعضها من الشيطان تأخذنا إلى مجاهل ومتاهات لا طاقة لنا بالتيه فيها.
التعليقات ()