الأسماك لم تخترع السفن، والطيور لم تخترع الطائرات، والحشرات لم تخترع السلالم والمصاعد؛ ببساطة لأنها ليست بحاجة إلى أيٍّ من هذه الأشياء، الإنسان هو الكائن الضعيف الذي لا يملك القدرة على السفر بنفسه عبر البحار والمحيطات فاخترع القوارب والسفن، وهو الواهن الذي لا يستطيع الطيران فاخترع الطائرات، وهو الذي لا يملك إلاَّ قدميه محدودتي الفائدة، فاخترع السلالم والمصاعد.
الحاجة أمُّ الاختراع، لو كنا أقوى ما كنا اخترعنا شيئاً، وهذا يوحي أنه إذا كانت هنالك مشكلة ولم نجد لها حلاَّ، فالحل الأنسب هو أن نزيد من المشكلة، فيزيد ضعفُنا، عندها ستزداد قدرتنا على الابتكار.
أنت وصديقك في اختبار، وليس لديكما سوى قلم رصاص واحد، الوقت لن يسعفكما أن تتناوبا الكتابة بهذا القلم، الحل هو أن نصنع ضَعْفاً؛ اكسرا القلم، نحن الآن لا نملك ولا قلماً واحداً..
كلا يا عزيزي، أنت الآن تملك الحل؛ فقط ابرِ شطري القلم المكسور كل واحد على حدا، وستجد بين يديك قلمين.
والأنثى، تلك الكائن الرقيق، القارورة سهلة الكسر، إذا أرادت أن تكون قوية بكت، فإذا قوة الرجل تنهار أمام هذه الدموع، وإذا به يعطيها من قوته ويحيطها بحمايته، فضعفها هذا جلب لها القوةَ من حيث لا تشعر القوةُ بذلك.
قوة المرأة أيضاً تكمن في أنوثتها الواهنة، ألا ترون كيف أن شمشون الجبار لم يتغلب عليه أعداؤه إلاَّ بدليلة التي خدعته؟! ومشهورٌ في عصرنا هذا لدى العامة أن الرجل يتحول إلى ”خروف“ أمام النساء إذا أناخ لهنَّ هامته؛ وأنا أتحفظ على هذا المصطلح، لكنني أستشهد به هنا باعتباره أمراً مشهوراً ويناسب المقال، يقول الدكتور أحمد خالد توفيق: ‹‹الرجالُ الأشدَّاء يصيرون أطفالاً عندما يتعاملون مع امرأةٍ جميلة››.
هنا يمكننا القول إنَّ لكلِّ ضعيفٍ نقطةُ قوةٍ علينا استغلالها، نلاحظ هذا كثيراً في الحيوانات؛ كالشاة الضعيفة مثلاً خُلق لها قرنان لتستقوي بهما، والحبَّار على ضعفه مكَّنه الله من ضخ حبرٍ يربك به أعداءه، والعصفور الصغير قوته تكمن في حجمه الذي يمكِّنه من الاختباء بين الأوراق الكثيفة للأشجار فلا يصل إليه الطير الجارح الكبير، وبعض الفراشات على وداعتها خلق الله تعالى في أجنحتها خطوطاً تشبه الوحش المفترس، فإذا ما اقترب منها عدو فردت جناحيها لتخيفه فيبتعد.
التوازن بين القوة والضعف موجود في المخلوقات، حتى الإنسان الذي يجد جسده أهون ما يكون، أُودع عقلاً لا تملك المخلوقات الأُخر له مثيلاً.
لا يقولنَّ أحدكم سأعيش ضعيفاً لأن الضعف خير من الجبروت والطغيان، ولا تقولوا نم مظلوماً ولا تنم ظالماً؟ لماذا عليك أن تُظلم من الأساس؟ إن رسول الله صلى الله عليه السلام يقول: [المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير]، فنحن مطالبون بأن نكون أقوياء: ﴿وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباطِ الخيل﴾، العدو ليس فقط إنساناً، حتى الحياةُ نفسها قد تكون عدوًّا نعد لها العدة: ﴿المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدُّنيا﴾، فالمال قوة، والبنون قوة.. أما المال فله سلطته التي يعرفها العقلاء، وأما البنون فسندٌ وحماية.
وحتى في المظالم نجد الأقوى هو الذي ينتصر على ضعيفِ الحجة، وحُكمُ المحاكمِ في نهاية الأمر لمن يملك القوة في الحجة وإثبات البراهين؛ ولهذا السبب شُرع الاعتماد على محامٍ يدافع عن قضايانا.
هنالك ضعف وهنالك قوة، وكل ضعيف عليه الاستناد إلى قوة تحميه، فمن لم يجد استخرج قوةً من داخله تدافع عنه.
الدنيا ـ كما قال عنها الشاعر ـ كبحرٍ يحتوي سمكاً وحوتاً، والحياة غابة ملئية بالمخلوقات؛ فيها الأرانب الضعيفة، وفيها الثعالب الماكرة، وفيها السباع المفترسة، وفيها الذئاب الخبيثة، ولكي نعيش علينا أن نكون فطنين إلى من نتعامل، إن قابلتَ كريماً فكن كريماً، وإن قابلتَ ماكراً فكن ماكراً، وإن قابلتَ خبيثاً فكن خبيثاً.
إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، فقط عليك أن تعرف متى تكون ذئباً، وعلى من.. لا تكن ذئباً على الدوام، ولا مع الجميع.
الشريعة الفطرية تقول: ‹‹البقاء للأقوى››، وهي المقولة الحقيقية الصادقة، لكننا نتفلسف أحياناً فنقول إن البقاء للأذكى، للأغنى، للأسرع، للأكثر تقدماً تقنيًّا.. أوليست هذه كلها تدخل في معنى القوة؟!
البقاء للأقوى، كن قويًّا تجد نفسك باقياً، إننا نجد أُمماً وحضارات انهارت وبادت لأنها مرت بمرحلة ضعف، ثم جاء من بسط عليها قوته، فاختفت الضعيفة وأُبيدت.
كُن قويًّا وكفى، إنَّ قانون الغاب لم يأت عبثاً!
التعليقات ()