إن من لا يقرأ مَثَلَهُ كَمَثَلِ بِركةِ ماءٍ ساكنةٍ جامدةٍ لا تتحرك، تحوم حولها الحشرات فتغدو آسنة.
الذي لا يقرأ في حقيقته آسنٌ، تتراكم في عقله الأفكار السلبية المريضة، الواحدة تلو الأخرى، ومن يقترب منه يصاب بالعدوى.. إلاَّ القلة القليل ممن يقضي وقته في تعاملات متكررة مع البشر والحياة، يكتسب منها الخبرات والحِكَم، تحرَّكت مياهه الراكدة فابتعدت عنها الحشرات، واكتسب من المعرفة الذاتية ما حماه من أن يتأسن.
أما القارئ ـ محور حديث مقالنا اليوم ـ فعلى ضربين؛ ضربٌ يقرأ ليستمتع فقط، وآخر يقرأ ليستفيد.
مشكلة القارئ الذي يقرأ مكتفياً بالمتعة فقط أنه لن يحصل عليها دائماً، فالكتب تتفاوت والذائقة تختلف، فإن أعجبه اليوم كتاب لن يسلم في الغد من كتاب يخلو من المتعة، على عكس القارئ الباحث عن الفائدة، يجمع بين الاستفادة والمتعة، إذ كلما استفاد استمتع.
أما كيف تستفيد مما تقرأ؛ أبسط ما يمكنك فعله هو أن تتحاور مع الكتاب، تخالفه وتوافقه، أن يكون لك رأي، فإذا أردت أن تستفيد أكثر فاخرج من صفحات الكتاب إلى مجتمعك وحاور أصدقاءك، أخبرهم أنك قرأت الكتابَ الفلاني، والكتابُ يتحدث عن كذا وكذا، فماذا تنظرون؟ كل واحد سيدلي بدلوه، وادلُ أنت بدلوك معهم، وسيترسخ ما قرأته في ذهنك لن تنساها بسهولة.. حتى وإن كان الكتاب للتسلية، للضحك، للمتعة المحضة، تحدَّث مع أصدقائك عنه تكتسب فوائد المتعة ذاتها.
لكن دعنا نرجع إلى الوراء قليلاً، إلى ذلك الذي تمتد يده في رهبة إلى كتابٍ لأول مرة في حياته، يقول في نفسه: «أريد أن أقرأ».. هذه أخطر مرحلة من مراحل القراءة، وعلى المحيطين به مساعدته في اجتيازها بأقل ممكنٍ من الخسائر؛ إذ إن غلطةً واحدةً من الممكن أن تكون عاقبتها وخيمة.
يجب لمثل هذا المبتدئ، المُقْدِمِ على هذه المغامرة الخطيرة، أن يقرأ كتاباً يعجبه، وإلاَّ رماه أرضاً أو ألقى به في سلة المهملات، ثم هجر القراءة إلى الأبد.. على المحيطين به الحذر من هذه الخطوة؛ معرفة ميول هذا المغامر، ونصحه بما يتوافق مع نزعته، ثم التفكير بأبسط الكتب كي يقرأها بسلاسة، حتى يجتاز هذه المرحلة على خير، فإذا اجتازها بنجاح فما بعدها أهون.
يتطور هذا الشاب شيئاً فشيئاً، حتى يصير متمرساً، يجيد اختيار كتبه بنفسه، معتمداً على ما يحب وما يكره.. قد يصبح قارئاً عاديًّا وسطاً، فهذا ننصحه أن يقتني كتبه بدقة، وذلك بأن يستكشف نفسه أولاً؛ ما يحب وما لا يحب، ثم يستكشف الكتب؛ أيها تصلح له، وأيها لا تصلح.. ليقم ببعض التجارب في البداية ويقرأ أنواعاً مختلفة، ثم يقرر ما هو اللون الذي يليق به، فليستمر به.
نصيحتنا الثانية أن لا يجامل أبداً، فلا يقرأ كتاباً لأجل خاطر فلان وفلان، إلاَّ أن يكون الكتاب بسيطاً، أو يكون الكتاب لأحد معارفه فهو يريد رأيه فيه ونصحه، هنا لا بأس بقراءة الكتاب من أجل النصح، لكن لا تقضِ وقتك كله في المجاملة تلو المجاملة، هذا من شأنه أن يقضي على ذائقتك ويحطم مَلَكَة الاختيار السليم لديك.
وقد يصير قارئنا هذا ـ مع الزمن ـ ملتهماً للكتب، لا يترك فرصة للقراءة إلاَّ ويقتنصها، وقد تجد في غرفته أو مكتبه مجموعة من الكتب، لا تعرف من أين جمعها ولا كيف.. هذا القارئ يطلق عليه الغرب اسم: دودة كتب Book Worm وهو أمر محمود ما لم يتطور أكثر من ذلك، فإذا تطور وغلا في جمعه للكتب والقراءة، صار مريضاً بمرض الببلومانيا.
الببلومانيا Bibliomania هو ‹‹المرض اللذيذ››، وذلك أن المريض يستمتع به ولا يتمنى أبداً الشفاء منه.
Biblio بادئة بمعنى كتب، و maniac بمعنى مهووس، فهو مهووس الكتب الذي يتصرف تصرفات مريبة غريبة من أجل الحصول على الكتب، قد تصل إلى حدِّ السرقة.
والتاريخ يذكر لنا حوادث كثيرة لمشاهير أُصيبوا بهذا المرض اللذيذ، مثل الأمريكي ستيڤن بلومبرݘ الذي سرق من الكتب ما قيمتها أكثر من خمسة ملايين دولاراً، والشاعر المسرحي الفرنسي جان جينيه، الذي لم يكفَّ عن سرقة الكتب، تم سجنه أكثر من مرة بسبب ذلك، وكلما أطلق سراحه من السجن عاد فسرق كتباً أخرى من جديد.. والتاريخ العربي لا يخلو كذلك، إذ هناك الصاحب بن عبَّاد الذي لديه مكتبة كبيرة من الكتب، ويأبى إذا سافر أن يتركها، فكان يأخذ معه ثلاثين جملاً محمَّلاً بالكتب، أيضاً العالم ابن الملقن، الذي كان مهووساً بجمع الكتب، ثم فقد كتبه فأصيب بالجنون، هناك كذلك ابن إسحاق الذي ليس له همٌّ سوى أن يسافر من بلد إلى آخر فقط ليجمع الكتب، وغيرهم من المرضى الكثير.
[اقرأ إن أحببت مسرحية (رؤى وسليمة) في كتابي (قد نموت ألف مرة)؛ للاستزادة أكثر عن الببلومانيا]
وتنوَّع في القراءة، فإن لم تكن متنوعاً فعلى الأقل اعرف ما تقرأ، وابحث عن المواضيع التي تهمك واستزد بها.. إن كنت معلماً فاقرأ عن منهجك في الكتب الخارجية، وإن كنت مهندساً فاقرأ في كتب الهندسة، المكتبات زاخرة بها، وإن كنت طبيباً فاجعل لك مراجع من الكتب تزيد من بصيرتك وتساعدك على التشخيص، وحتى ولو كنت نجاراً أو طباخاً أو صياداً أو ميكانيكيًّا أو غيرها، فاقرأ في مهنتك.
العالم يتطور، والكتب تأتي كل يوم بجديد، فإن أنت قبعت في مكانك معتمداً على ما تعلَّمته قديماً، فإنَّ العالم يركض، وستظل أنت مكانك سر.
التعليقات ()