تحمل يداي سرابين، اليمني تمسك سراباً أسود مظلماً، كلُجةِ بحرٍ في غيهبِ ليلٍ سرمدي، واليسرى سرابها منير، أراه فأوقن من نوره شديدِ السطوع أنني تائه لا محالة.
أذكر أنني في فترة انتقالي من المرحلة الإعدادية إلى الثانوية تناولت مع صديقين لي حواراً عن الخير والشر، حاولت فيه إقناعهما أنَّ الخيرَ أبيض اللون، ولكن فيه سوادٌ يُفضي إلى قاع الحياة دركةً دركةً، والشرَّ رمادي اللون، ولكن فيه بياضٌ يعرج بنا إلى سماء الحياة، درجةً درجةً.. غير أنَّهما ـ الصديقين ـ كانا خيِّرين أكثر مما يجب، فقالا إن الخير نور مطلق والشر ظلام مطلق، والإنسان لا يبصر في الظلام، كما أنه لا يتيه في النور.
وللأسف، صدقتهما!
سأطرح الآن سؤالاً: هل الغمُّ خير أم شر؟
ما أدرىٰ عقولنا القاصرة بالخير والشر؟ إنََّ ما نراه شرًّا هل هو شر في حقيقته؟ وما نراه خيراً هل هو فعلا خير؟ نحن نرى الوحوش شريرة، تعيش على لحوم الحيوانات الضعيفة تفترسها، وربما على لحومنا كذلك.. ونرى الحشرات شريرة، كل همها أن تخرج لنا من المراحيض والمجاري، ومن تحت الحجارة والجحور، ليس لها همٌّ سوى إزعاجنا وإصابتنا بالقرف.. لكنَّ الحقيقة - الغائبة عنا غالباً - أن الوحوش بريئة، ما افترست إلاَّ لأنها تريد أن تعيش، ولو لم تفترس اللحوم لانهار النظام البيئي ولاختلَّت الحياة، فتموت ونموت معها.. والحشرات بالمثل؛ كائنات حية تقتات على فضلاتنا، تنظف ما نرمي من بقايا طعام، ولولاها لفسدت الأرض ونحن معها.
فما هي حقيقة مفهومنا للخير والشر؟ ولماذا ما نراه شرًّا نرجمه، وما نراه خيراً نمجِّده ونسأل له التقديس؟
نحن نهاب الجنَّ ونراهم شرًّا، رغم علمنا أن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك، تماماً كالبشر، ولعل البشر إلى الشر أقرب، فهم من يدمِّر، وهم من يقتل ويسفك الدماء، مقارنة ببعض الجن الذين يسبِّحون بحمد ربهم ويقدسون له، كأني بهم ملائكة.. ولعمري ليس من حائلٍ بين البشر والشر سوى حرف واحد فقط، لعله وُجد سهواً، أو لغاية لا نعلمها، وإلاَّ فنحن الشر يمشي على قدمين.
نعود لسؤالٍ لم نجب عليه: هل الغمٌّ خير أم شر؟
لا ندري، فنحن لا نملك العقول المؤهلة لتبيان هذا الأمر على الحقيقة، لكنَّ الله تعالى يؤكد في معركة أحد حقيقة أنَّ الغم قد يكون في بعض أحواله أمراً محموداً: ﴿فأثابكم غمًّا بغمٍّ لكي لا تحزنوا﴾، فوصف غمَّ الهزيمة أنه ثواب، وغمَّ خبر موت النبي ﷺ أنه ثواب، فكيف بنا بعد هذا نَصِفُ الغمَّ أنه شرٌّ على وجه الإطلاق؟!
أليس: ﴿وعسىٰ أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسىٰ أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم﴾؟.. مَن الحَكمُ النهائيُّ في الفصلُ بين الخير والشر؟
الخير والشر.. شرابان لا نملك أن نقول إن أحدهما أو كليهما سمٌّ أو سلسبيلٌ عذبٌ ما لم نتذوقهما أو نجربهما، وسرابان نتيه بهما في اتخاذ القرار وتحديد المصير ما لم نخض في لُجتهما لنتيقن حقيقتهما، ثم بعد ذلك لا يقين نحصل عليه سوى الوهم.
دعونا نتوقف أمامهما ـ الخير والشر ـ طويلاً قبل أن نحكم ونقرر ونتهم الأشياءَ والناسَ من حولنا جزافاً.. إننا نجهل الخير ونجهل معه الشر بالتبعية، ولعل في جهلنا هذا محمدة، فبعض الجهل نور من حيث لا نشعر، وقد وعظ الله تعالى نبيه نوحاً عليه السلام بالجهل حين غرق ابنه، إذ تاه عليه السلام ولم يعرف أين الخير وأين الشر، فقال له تعالى: ﴿إني أعظك أن تكون من الجاهلين﴾.. فلمَّا لزم عليه السلام الجهلَ واستقر بما وعظه الله به، تيقن معنى الشر وأدرك معنى الخير.
مغزى مقالنا اليوم: لا تحكم على شيء أنه شر أو خير، أنه قاتم أو منير، أنه يهدي أو يثير التيه في أرواحنا، حتى وإن كان الأمرُ بيِّناً، لا تحكم عليه.. فلعلَّ من بذرة الشر تخرج أشجارٌ طيبة، ومن بذرة الخير نجني ثمارَ البؤس.
التعليقات ()