للزمن صروف، وكلما تبدلت معالم الدنيا بسبب صروف الزمن، انبثق عصر جديد بملامح جديدة تليق وحاضر تلك الحقبة الزمنية.
في البدء كان (عصر ما قبل التاريخ)، بكل ما فيه من عصور فرعية مثل العصر الحجري والنحاسي والبرونزي وغيرها، ثم كُتب التاريخ فظهر (عصر التاريخ القديم)، وبعده (فجر التاريخ)، ثم (عصر التاريخ الحديث)، وتتداخل العصور بعضها ببعض حتى وصلنا إلى (العصر الحديث) الذي بدأ مع نهاية (العصور الوسطى) عام 1500م، وانتهى مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، بعدها دخلنا عصر الميكانيكا والآلة والكهرباء، وهو ما سُمي بـ (العصر المعاصر).
لكن صروف الزمن لم تتوقف، ولن تتوقف، والتقنيات العلمية تتطور حتى صارت بمتناول جميع البشر، وهو ما نشهده حالياً، حتى الأطفال صار بإمكانهم الحصول على الأجهزة التي تجعلهم يبحرون في عوالم مختلفة، هذا هو (عصر الملتميديا) الذي نعيشه الآن، إلى درجة أن مصطلح ”الأمِّي“ مثلاً، الذي كان يُطلق على من لا يجيد القراءة والكتابة، تغيَّر مفهومه فصار يُطلق على الذي يجهل كيف يتعامل مع التقنيات الحديثة العامة.
هل توقفت عجلة الزمن عند هذا الحد؟ على العكس، صار التغيير أكثر سرعة، فلم نلتقط أنفاسنا بعدُ حتى ظهرت الإنسالات (الروبوتات)، وبدأت تضع أيديها على واقعنا، وجعلت تهدد عصر الملتميديا بالرحيل لتبسط هي سيطرتها.
إننا نعيش عصر التقنيات والآلات والحواسيب، ولم يعد بمقدور الإنسان أن يعيش كما كان سابقاً، فإن فعل فقد انعزل عن العالم، وأي خللٍ تقنيٍّ من شأنه أن يهدد معيشة الإنسان، فالكل يتعامل بالتقنية، حتى الحكومات ذاتها صارت تتعامل بالرقميات وتبتعد عن التعامل البشري المباشر إلى حدِّ كبير، وكأننا نعيش إحدى قصص الخيال العلمي.
وفي غمرة هذا التعامل الرقمي بين الحكومات والمؤسسات بل والأفراد، تعلن هيئة تنظيم الاتصالات في بلادنا فجأة عن حدوث خلل في شبكة الاتصالات في محافظة مسندم.. هنا يتوقف القلم عن وصف الحالة، وتتحول قصة الخيال العلمي المبهرة إلى قصة رعب مخيفة.
خلل جزئي هو وليس كليًّا، امتدَّ لسبعة أيام فقط، لكننا في عصرٍ لا يحتمل مثل هذا الخلل، شلل كبير أصاب المنطقة، يشبه ما حدث في نيويورك في تسعينات القرن الماضي حينما انقطع الكهرباء ليلاً لخمس دقائق فقط، مئات الحوادث والسرقات والجرائم حدثت، عجزت الحكومة عن التصدي لها أو كشفها، نفس الأمر تكرر في مسندم، لكن دون جرائم ولا حوادث ولا سرقات، إنما توقفت الحركة حتى بدت وكأن الحياة هي التي سُرقت.
ولكن مهلاً، نحتاج إلى لحظة تأمل.. هل سُرقت الحياة فعلاً؟!
الحق يقال إن الحياة كانت مسروقة، سرقتها التقنية بكل ما فيها من سحر أغمض أعيننا عن الطبيعة، فبتنا لا نرى إلاَّ الصناعات والوهم والفبركة.
في سبعة أيام، سافرت مسندم - جزئياً - في رحلة إلى الماضي، حيث الجار إذا أراد من جاره شيئاً طرق بابه وجهاً لوجه، والصديق إذا أراد سماع صوت صديقه التقيا، ولا يكتفيان بالرسائل المكتوبة ولا المسموعة، والواحد إذا أراد أن يصل رحمه حمل نفسه وذهب إلى أقاربه يزروهم في مساكنهم، وهو الأمر الذي لم نعد نعهده إلاَّ قليلاً.
المشغول بتطبيقات التواصل توقف عن شغله، فصار يتابع شؤونه الحقيقية، والموهوب توقف عن ترَّهات ما كان يفعله في حساباته الشخصية هنا وهناك ووجد وقتاً كي يمارس هواياته المفيدة، والأطفال الذين كانوا مدمنين على الألعاب الإلكترونية شعروا أنهم من الممكن أن يكملوا حياتهم بكل سلاسة من دونها، وربما من باب المبالغة - لكنها قريبة من الواقع - أن نقول إن الأسرة الواحدة بدأ أفرادها يتعرفون على بعضهم بعضاً، ولأول مرة يجتمعون في الصالة كلهم في آن واحد، على عكس ما كان عليه الوضع منذ فترة طويلة أنَّ كل فرد منهم معتكف في غرفته الخاصة.. هذا الشأن حتى فترة الحظر أيام كورونا لم نتلمَّسه، ولسان حالنا يقول إن العالم الرقمي الذي نعيشه أشدُّ فتكاً على الحياة الإنسانية من جائحة عالمية مثل كوڤيد-19.
وعلى الصعيد الشخصي؛ في فترة السبعة أيام هذه أُتيح لي أن أكتب رواية قصيرة، وقرأت زوجتي أحد كتبي، وقرأت ابنتي الصغرى خمس قصص للأطفال، كما أنَّ أحد أبنائي أنهى كتاباً، وفوق هذا تلقيتُ رسالة من أحد الأصدقاء أنه قرأ مجموعتي القصصية ”أنثى بطعم السكر“ (أكثر من 400 صفحة)، في أقل من 24 ساعة.
رُبَّ ضارة نافعة، ورُبَّ موتٍ يُفضي إلى حياة.. لا ننكر الضرر الحاصل في المنطقة، والمشاغل التي توقفت أو أُجِّلت، وكذلك النفوس التي تأثرت، والمعاملات التي لم يُتح أن تُنجز في وقتها فتضرر أصحابها، وفواتير الهاتف التي تضخمت بل تضاعفت مع استخدامنا لنظام البيانات بدلاً من الواي فاي، فصارت المبالغ تنسحب من أرصدتنا دون أن نستفيد من المواقع التي لم تُفتح.. لكن مع ذلك، مع كل ذلك، انقضت الأيام السبعة، وما زلنا أحياء، هذا يعني أننا - صدِّق أو لا تصدِّق - كائناتٌ تستطيع أن تعيش من دون شبكة الإنترنت فترة أطول مما كنا نتوقع، مسندم أُنموذج، غير أن الأمر ينطبق على كل العمانيين، كل الخليجيين، كل العرب، وكل البشر.
التعليقات ()