[كُتب هذا المقال بتاريخ: 23 أغسطس 2020م، في عز فترة كورونا]
اصطحبتُ اليوم ابني الأصغر عُمر، وابني الأكبر عبد الرحمن، في جولة إلى شاطئ بصة.
ورغم التحذيرات التي تشدد عليها وزارة الصحة والحكومة، بدت الزحمة منتشرة إلى حدٍّ مخيف على الشاطئ، ولم يكن أحد يرتدي الكِمامات إلا قليلاً، ولا أحد يمارس التباعد الجسدي إلاَّ قليلاً، وليس مَن يحاذر أخاه أن يلامسه ويصافحه إلاَّ قليلا، كان الوضع كأننا تجاوزنا عام 2020 وتجاوزنا معه الأزمة الصحية والسياسية والاقتصادية.. يظهر أن الناس قد سئموا التباعد فقرروا الانفلات شيئاً قليلاً، إنها إجازة رأس السنة الهجرية، نحن على أعتاب عام 1442هـ، هذه عصرية جميلة، البحر يتراقص بأمواجه على رمال الشاطئ الجميل، والجبال من حولنا راقدة في تكاسل بين جوانب الطرق، كيف يمكن مقاومة جوٍّ كهذا والانصياع إلى وباء كورونا بما يحمله من مرض وموت وبؤس، الأمر الروحاني في قلوب الناس أكبر من هذا السواد، جلسةٌ على الشاطئ قبيل غروب الشمس لا تضر أحداً.. الليل قريب والظلام يزحف، شيء من النور قبل هذا أعتقد أن كوفيد-19 سيحترمه ولن يهتك حرمته.
عذراً، ما الذي أكتبه؟ لم آتِ لهذا، إنما لشأنٍ آخر.
عمر يلعب على الشاطئ، هي المرة الأولى - وهو في سن الثلاث سنوات - التي يتاح له فيها اللعب هكذا، يأخذ الحصى ويرميها إلى البحر، بالكاد يصل برميته إلى أطراف الماء، لكنه مع ذلك يصرخ سعيداً بإنجازه العظيم، وإلى جانبه عبد الرحمن يلاعبه ويشجعه، ويحاول من جهة أن يرمي حجراً مفلطحاً إلى سطح البحر بدرجة مائلة، كي يتقافز مراتٍ على سطحه قبل أن يغطس.
كل واحد من حولنا على الشاطئ منشغل بنفسه، أو بعائلته، هناك النساء الجالسات على الرمال بعباءاتهن، يتحادثن أحاديث متفرقة، مع ضحكات متقطعة، وبين الحين والآخر تنتقل أعين بعضهن إلى البحر تراقب أطفالهن الذين توزعوا؛ منهم الذي يركض، ومنهم الذي يسبح، ومنهم الذي يبني من حبات الرمل قلاعاً وحصوناً، أو يرسم وجوهاً لملامح طفولية باهتة، وقد يرسموا خيالات، لن تلبث بعد سنوات أن تنضج على لوحات فنية تصل بشهرتها الآفاق، أو أنَّ هذا ما نأمله.
في الجانب الآخر بعض الشباب يتمشون على أقدامهم يرتدون ملابس أنيقة، وآخرون يرتدون ملابس رياضية، يركضون تارة وتارة يمشون مشياً سريعاً، تمنيت أن أرى واحداً منهم على الأقل وقد خلع نعليه يمشي حافي القدمين، لم يعد الناس يمشون على رمال الشواطئ حفاة، رغم ما في هذا المشي من متعة كبيرة، أذكر أننا - أنا وبعض الأصدقاء - قبل عشر سنوات تقريباً تمشينا على شاطئ القرم في العاصمة مسقط حفاة الأقدام، بل وجعلنا نركض، والكل من حولنا ينظر إلينا في استخفاف، لكنها متعةٌ زهد الناس عنها، وقد يُستنكر على من يمارسها.
حديقة الألعاب على شاطئ بصة هذا اليوم مهجورة، ما زال كورونا مسيطراً رغم كل شيء، غير أن السعادة لم تزل ترتسم على وجوه الأطفال، فالطبيعة أكبر حديقة ألعاب في عيونهم، يمكننا بسهولة إذا كنا حريصين أن نجعلهم يلتفتون عن ألعابهم الإلكترونية لنريهم كيف أن الطبيعة، برمالها وجبالها وصخورها وبحارها، ألعاب من أجمل وألطف وأحلى الألعاب التي تفوق أي لعبة إلكترونية تعبث بهم من حيث يظنون أنهم يعبثون بها.
وعلى شاطئ بصة رجال، نساء، شباب، متفرقون فُرادى هنا وهناك، كلٌّ في جلسته أو وقفته أو مشيته، هائم مع نفسه، غائص في عالمه الخاص، لا نملك أن نسبر أغوارهم، لكننا نعلم أنهم ليسوا معنا، منهم من يجالس همومه، منهم من يسامر عقله، منهم من يحادث قلبه، ومنهم من لا يجالس نفسه، بل طيفاً لا نراه.. هؤلاء عوالمهم خاصة جدًّا، ربما هم أنفسهم لا يعرفونها حق المعرفة.
ما المغزى من هذا المقال؟ لماذا بعدما عدتُ من جولة الشاطئ هذه فتحتُ اللابتوب وعكفت أكتب؟
تعلمون أننا نخرج من تحت وطأة الحياة بين الحين والآخر، في جولات ترفيهية، أو سفرات استجمامية، نبحث عن أنفسنا، ننبش قلوبنا وعقولنا.. هناك من يفقد حلماً يريد تحقيقه، هناك من يبحث عن عاطفة يريد الشعور بها أو الخلاص منها، هناك من حيره سؤال أو شاكسته فكرة فهو يستدرجه أو يراودها، وهناك من يقف أمام صخور تسد له طريقه يبحث من حوله عن ثغرة يجتازها بها.. كل واحد من هؤلاء خرج من منزله وجاء إلى هذا الشاطئ، أو ذهب إلى مكانٍ طبيعيٍّ آخر؛ ليجد مفقوداً ما، قبل أن يعود من جديد إلى معترك الحياة، كلهم يبدون مجتمعين ضاحكين مستأنسين مع الآخرين، لكنهم في حقيقتهم يبحثون عن أنفسهم، ذواتهم، كينونتهم التي فقدوها في لجَّة أعمالهم أو همومهم؛ فقط الكاتب والمفكر والرسام والفنان والشاعر يخرج من جلد ذاته لينظر ببصره وبصيرته في وجوه الناس وسلوكياتهم، يرى ويتمعن ويتأمل، ليخرج لاحقاً من هذه الجولة لا إلى نفسه، بل إلى نفوسهم، فإذا عاد إلى منزله أو معمله أو مرسمه أو مكتبه، نصب لوحته ورسم عليها بريشته أرواحَ من رآهم، أو سنَّ قلمه وكتب أفكاراً تمسُّ هموم الناس الذين رآهم، أو ربما فتح البيانو ولوَّن أصابعه بنغماتٍ موسيقيةٍ ألواناً تحكي - بحزن أو بسعادة - عن البشر الذين شاهدهم، وقد يكتب قصة أو رواية أو مقالاً خرجت - قبل أن تخرج من عقله - من طيوفِ من شاهدهم وجالسهم على الشاطئ، أو الحديقة، أو السفرة التي سافرها.
هنالك من يخرج في جولاته الترفيهية ليجد نفسه، وهنالك من يخرج ليجد الناس وينبش خصوصياتهم، ثم يعود ليجسِّد ما رآه وشعر به وأحسه ولامسه بعينه الثالثة، كلُّ واحد بحسب فنه ومهارته وأدبه وشعره، وممارساته التي جُبل عليها.
التعليقات ()