”هنالك من يكتم، كيلا ينفجر.. وهنالك من يفضفض، أيضاً كيلا ينفجر“.
نشرتُ هاتين الكلمتين في مواقع التواصل، فإذا بالردود، سواء في التغريدة أو على الخاص، كلها تُجمع على أن الكتمان هو الحل، وهو المتنفس، وهو الأسلوب الأنجع لعلاج آلام القلوب ورتق جروحها.
هناك من قال إن كليهما متعب؛ الكتمان والفضفضة، على أن الكتمان أفضل من أن ننشر غسيلنا في واجهة من لا يستمع إلينا، وإن استمع فلن يشعر بما نشعر به، سنظل نكتم حتى وإن خنقنا الكتمان.. إنَّ الطبيب الذي يعالج بدنك لا يشعر بآلامك، هو فقط يتعرف على موضعها ويختبر أدويته، فكيف بمن تطلب منه معالجة قلبك وروحك، وهما غائبان يستحيل سبر غورهما ومعرفة مكنونهما؟
وهناك من قال: ”هنيئاً للصامتين، يبتعدون عن ضوضاء الحياة ويعيشون في هدوء“، ومن قال: ”الكتمان أولى، فإن كان ولا بد من الفضفضة والبوح، فسجادة الصلاة أو القلم“.
لم أرَ واحداً يتغزل بالبوح، ولم أجد من يُرجِّح كفَّة الفضفضة على الكتمان والصمت.. أهي عدم ثقة بالناس؟ بالحب؟ بالمشاعر الصادقة والآذان المستمعة؟ هل فعلاً الخلُّ الوفيُّ من المستحيلات الثلاثة، كما قالت العرب قديماً؟
كلُّ ما قيل أعلاه صحيح لا أنكره ولا أزايد عليه؛ إذ ليس كسجادة الصلاة متنفساً، وليس كالقلم ممتصًّا لتعب الحياة، على أنَّ الفضفضة مطلب نحتاجه، وليس ترفاً نفتقده، إنَّ قِدْرَ الضغط الذي نطبخ فيه الهريس ينفجر، لكن الفتحة في الأعلى تجعله يتنفس فيقلُّ الضغط الذي فيه، هكذا نحن نحتاج إلى أن نتنفس، إلى أن نبوح، وإلى أن نفضفض، ليس كلنا نملك أقلاماً نشكوا إليها بثنا وحزننا فنرتاح.
{إنَّمَا أشكُو بَثِّي وحُزنِي إلَى الله}
لم يقلها يعقوب عليه السلام إلاَّ بعدما يئس من أن يستمع إليه قومه وكادوا يتهموه بالجنون، وإلاَّ فقد كان قبل ذلك يفضفض لهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هاله مرأى جبريل وما سمعه من نبأ السماء، شعر بالخوف، فكان أولُ ما فعله أن ركض إلى زوجه خديجة يفضفض لها، فزمَّلته ودثَّرته بكلامها قبل غطائها.
جيل الطيبين يذكرون قصة الحلاق مع الملك ذي الأذنين الطويلتين، لم يستطع الحلاق أن ينام الليل ولا أن يهنأ بنهاره وهو يكتم هذا السر، كان يختنق، فلم يجد إلاَّ أن يفضفض للبئر، لكن حتى البئر لم تستطع أن تكتم السر فأفشته لجذور الأشجار، وعجزت الجذور فأفشته لأغصانها، وعجزت الأغصان فأفشته للرياح، وعجزت الرياح أن تكتم السر فجرت به في المدينة وسمع الناس كلهم هذا الصوت: ”إن أذني الملك طويلتان“.. ولقد حاكيتُ هذه القصة في إحدى قصصي، لكن جعلت البئر بركاناً، ولم يستطع البركان بدوره أن يكتم السر، فأحرق المدينة بما فيها.
هل قال أحدكم إن الكتمان يجعلنا نهرب من ضوضاء الحياة؟ في روايتي (تحت ظل الظلال) مقولة لجاكيبرا قال فيها: ”عندما يخيِّم الصمتُ على مكان مزدحم، فالكلُّ في صخبٍ كبيرٍ وضوضاء“، إذن لا مجال للهرب، أنت فقط تنقل الضوضاء من الدنيا إلى داخلك.
إن جاكيبرا يحذِّرنا: ”الصمت، فلنحذر الصمت.. إنه يشبه الموت، هل سمع أحدُكم من قبلُ صوتاً لميت؟“.
التعليقات ()