إذا سُئلتُ عن كرة القدم ماذا أعرف عنها، لن أفكر كثيراً، معلوماتي عن كرة القدم تقتصر على اسم واحد هو الذي أراه أسطورة الأساطير، كان وما يزال.. إنه مارادونا.
لستُ من متابعي كرة القدم، وكل ما أعرفه عنها يقتصر على لعبي الذي كان في الدبدبة أو في نخل بسطي، حيث كان وجودي في الملعب كعدمه، وكنت ألعب في منطقة الدفاع، وكنت طويلاً وساقي طائشة، ربما هذا الشيء الوحيد المميز فيني، وهو ما قاله أحد اللاعبين المحترفين عندنا؛ أنه يخاف حين يراني في مواجهته، وأذكر قميصاً أحمر كنت أرتديه مكتوباً على ظهره «نادي شناص»، اختفت "نا"، واختفى حرف الـ"ص"، وبقيت كلمة «دي شنا»، وهو اللقب الذي عُرفت به أيامها، ولأنني لست لاعباً ذا أهمية فحتى هذا اللقب لا يذكره أحد الآن.
لم أتابع كرة القدم في حياتي، وحينما كان كأس جلالة السلطان قابوس في أوجه، كانت العائلة كلها تجتمع لمشاهدة المبارايات، وكان أخي الأكبر يشجع نادي فنجاء، فكنت أشجعه معه من باب المؤازرة ليس إلا، لكن الحق يقال إن فنجاء كانت قوية وتلعب باحترافية، حتى أنني كنت أحفظ أسماء كثير من لاعبيها في تلك الفترة، نسيتهم الآن.
وكنت في مسقط عام 2006، وعندي بعض الرفقة الذين حرصوا على مشاهدة آخر مباراة لكأس العالم في ذلك العام، وكانوا يشجعون فرنسا، خاصة أن زيد الدين زيدان أعلن فيها أنها ستكون مباراته الأخيرة، فشهدتُ نطحته الشهيرة للإيطالي ماركو ماتيرازي؛ هذه النطحة هي التي تجعلني أذكر ذاك اليوم بالذات، خاصة أن إشاعات كثيرة قيلت عنها آنذاك.
ماذا أيضاً أعرف عن كرة القدم؟ لا شيء، حتى الأسطورتين كريستيانو وميسي، أعرفهما بالاسم فقط، هذا العام هي المرة الأولى التي أشاهدهما يلعبان في مونديال 2022، وقديماً عندما كنت ألعب البلايستيشن لا أذكر أنني كنت اختارهما في فريقي الذي أختاره، بل سألت أخي أيُّ فريق أشجع، فنصحني ببرشلونه، وسألته أيُّ اللاعبين أختار لفريقي، فنصحني ببعض الأسماء، وكنت ألعب وانهزم واستمتع بانهزامي.
هذا الأنا الذي لا أعرف شيئاً عن كرة القدم، تخيلوا، شاهدتُ أغلب مباريات مونديال 2022 المقام في قطر، فإذا قلتُ الآن شيئاً لا يعجبكم عن لاعبيكم المفضلين، فلا تأخذوا بكلامي.. إن أمثالي مرفوع عنهم القلم في هذا الإطار.
أما ميسي وكريستيانو فلم أرهما يلعبان بالمستوى الذي يجعل منهما أسطورتين، هما محترفان ويستحقان الإشادة بلا شك، لكن لم أرَ موجباً لكل هذه الضجة التي تثار حولهما، بل وجدت كريستيانو أفضل من ميسي بدرجة، وأرى أن المدرب ظلمه حينما كان يركنه في الدكة وهو يعلم أن هذا هو الكأس الأخير الذي يشارك فيه.. قلت هذه الكلمة وأنا أشاهد مباراة الأمس، فجاءني الرد مباشرة من المعلق خليل البلوشي في ذات اللحظة: «من حقك ألاَّ تحب ميسي، لكن أن تنكر احترافيته؟ إذن ابحث لك عن شيء آخر غير كرة القدم تشاهده».. قصف جبهة مباشر سدَّده لي البلوشي.
بالتأكيد شجعت بعض الفرق وأنا أشاهد المباريات؛ خاصة قطر وتونس والسعودية والمغرب، وبعضَ الفرق الأُخر حينما يكون فوزها لصالح أحد هذه الفرق العربية، وتوقعت فوز السعودية على الأرجنتين، ولم أستبعد أن تتأهل المغرب بل وأن تأخذ الكأس أيضاً، وأُعجبت كثيراً بحارس السعودية محمد العويس، الذي كان هو اللاعب الأوحد في مبارياتهم الأخيرة ضد المكسيك، وأيضاً ياسين مونو حارس المغرب، وحزنت كثيراً على هزيمة المغرب ضد فرنسا، وكرهت مبابي في تلك اللحظات، لكنه أعجبني في مباراته الأخيرة ضد ميسي، بل وتعاطفت معه حينما انهزم، خاصة أنه لم يبتسم وهو يستلم جائزة الحذاء الذهبي، ورأيته يمر أمام كأس العالم وقلبه يتفطر حزناً، وبالكاد ابتسم ابتسامة باهتة حين تم تصويره مع جائزته.. تعاطفت معه رغم أنني لم أشجع فرنسا التي سمعتُ أنها كانت تنوي رفع شعار المثليين في حال فازوا بالكأس.
لم أشجع فرنسا، لكن مباراة الأمس كانت مملة، الأرجنتين احرزت هدفين في شباك فرنسا، وفرنسا كانت نائمة، لم يكن هناك حماس في الشوط الأول، وتمنيت هدفاً واحداً لفرنسا من باب الإثارة، خاصة أن هدف ميسي كان نتاج ضربة جزاء، وضربات الجزاء لا تبث الحماس.. في الشوط الثاني انقلبت الآية فجأة، ونهضت فرنسا مارداً سجل هدفين في دقيقتين فقط، وخليل البلوشي الذي كان يتغنى بميسي ويكاد يعلن أن الأرجنتين هي بطل الكأس، تغير صوته فجأة، وبُهت تمامًا، لسان حاله يقول: «لا تبع فراء الدب قبل صيده».. كلنا بُهتنا، وارتقت الإثارة إلى أوجها، ثم سجل ميسي هدفه الثالث، وأعقبه مبابي بالثالث كذلك، أعجب مباراة يمكنك أن تشاهدها في المونديال، استحقت بجدارة أن تكون ختامية هذا الموسم.
ثم فازت الأرجنتين بعد سنواتٍ من انتظار هذا الكأس، وانبعثت روح مارادونا كأننا نراها في سماء لوسيل تارة، وبين الجمهور الذي يتغنى باسمه ويرفع صورته تارة أخرى.
طبعاً لستُ أهلاً أن أفتي ههنا، فليس المجال مجالي، ولا الملعب ملعبي، ولا الساحة تخصني، لكنني أقول من باب الرأي، أنا الذي لم أشاهد كل المباريات، أن ميسي وكريستيانو لا يستحقان كل هذه الضجة، ومن يحدثني عن تاريخهما وماضيهما، فأنا أتحدث عن هذا المونديال، وأرى كريستيانو يفوق ميسي درجة، وأراهما كليهما مثلهما مثل مبابي ومثل نيمار ومثل حكيمي، وربما أنحاز إلى أشرف حكيمي قليلاً، ليس لمهارته _ أعترف _ بل لعروبته.
من هو بطل كأس العالم 2022 عندي؟
إنها قطر التي استضافت هذه المتعة؛ خلقت فخراً جميلاً للعرب، ونظمت رغم صغر مساحتها مهرجاناً عالميًّا أمتع الجميع، بل وكانت قوية في تنظيمها وقوانينها، ولم تضعف أمام الغباء الذي كان يحاك ضدها، بل ردت عليهم بالصمت الذي ألجمهم، وفوق كل ذلك ألبست قطرُ ميسي بشت الرجولة العربية العالمي، ردًّا على الفرنسيين الذين كُبكِبوا ولم يرفعوا شعارهم الملوَّن القاتم، والألمانيين الذين وُضعت أيديهم أنفسهم على أفواههم فصمتوا تماماً، وغيرهما.
كرة القدم بحد ذاتها، تلك المدوَّرة البهية، والمدوِّرة الشقية، كانت بطلًا أيضًا، بكل ما حملته لنا من مفاجآت لم نتوقعها، وأهدافًا أثارت الكثير من الجدل، وتناقضات غريبة تحدثت بلغة القوة والضعف، والمهارات والانتكاسات، وارتفاع وهبوط مستويات فِرَقٍ لم يُحسب لها حساب.
أيضا بطل كأس العالم كان خليل البلوشي، الذي خلق متعة كبيرة ونحن نستمع إلى تعليقه الساحر، وقدرته العجيبة في أن يكون، ليس دائمًا ولكن كثيرًا، محايداً، حتى في تعليقه مع فريق لا يشجعه، تراه نابض الكلمة ومتحمساً لا يفتر، بصوته الجهوري، ولغته المرنة، وأسلوبه الشيق، الراقي حتى في طريقته وهو يعتذر لدولة الإمارات وسط تعليقه في مباراة تمتلئ مدرجاتُها بأكبر قدر من الجماهير.
ماذا أيضا؟ لا شيء، انتهى كأس العالم، وسأعود الآن إلى سباتي.. ربما سأشاهد كأس الخليج، وربما سأكتفي ههنا.
التعليقات ()