نحن عباقرة في صنع النسخ لأنفسنا؛ نسخةً تلو نسخةٍ تلو أخرى، فإذا صادفنا شكلاً آخر يختلف عنا، نعتناه بالشذوذ، وكأننا قريش قد أتاها دين جديد، بعيد عن الآلهة والأوثان التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.
يقول ستيف جوبز: ‹‹من غير المنطقي أن توظف الأذكياء ثم تخبرهم بما عليهم أن يفعلوا، نحن نوظف الأذكياء لكي يخبرونا بما علينا أن نفعله››، وهذا أكبر سبب من أسباب نجاحه في تأسيس شركة أبل العالمية.
لا يتعلق الأمر فقط في التوظيف، إنما يدخل في كل ناحية من نواحي الحياة، لا سيما التربية، بل وفي الدين كذلك.. التلقين آفة من الآفات التي ابتلينا بها، وهو نوع من أنواع الغرور الذي يجعلنا نرى أننا الأفضل، وأن فكرنا هو الفكر الذي عليه أن يسود، وكأننا هتلر يريد أن يُبيد جميع الأجناس في الدنيا ليسود الجنسُ الآريُّ العالمَ بأسره.. هتلر حاول غزو العالم، ونحن نريد أن نغزو عقول من يلحقنا.
أن نظن أنفسنا أننا الأفضل، وأن نعمم أفكارنا على الآخرين، هذا هو الفشل بعينه، مهما ادَّعينا ومهما ادَّعى من حولنا أننا ناجحون.
نحن بتلقيننا الآخرين أفكارنا وإرغامهم على أن ينتهجوا نهجنا، سواء كان هؤلاء الآخرون موظفين لدينا، أو زملاء عمل، أو أصدقاء، أو حتى أبناء؛ إنما نصنع نسخاً لأنفسنا، وكأننا، رغم أعدادنا الكثيرة، فردٌ واحد يعمل بألفِ يدٍ ويد.. فرد واحد، وفكر واحد، ونمط واحد، ثم نتيجة عقيمة نجنيها بوهنٍ وضعفٍ، وبطءِ سلحفاة، في حين أننا لو تركنا كل فرد من أفراد المجتمع يقوم بعمله كما يفكر هو، لكان الأمر أسرع وأقوى.. لا أقول أن نترك الحبال على الغوارب، بل نوجِّههم إلى الطريق، وهم ينفذون الطريقة، وبين الطريق والطريقة ألفُ بونٍ وبونٌ.
حتى الإسلام، الذي نؤمن إيماناً يقيناً أنه الأفضل والأصح والأصلح من بين كل الأفكار والأديان، يتعامل مع معتنقيه ومع غير معتنقيه بمبدأ الحرية الفكرية، لا بمبدأ التلقين.. لو تمعنَّا في آيات القرآن الكريم لوجدناها حمَّالة أوجه؛ أي تحتمل أكثر من وجه، وما هذا إلاَّ لإتاحة الفرصة للعقول كي تتمعن وتفكر وتستنبط، ثم تقرر الصحيح من الخطأ، ورُبَّ فكرتين متناقضتين، واستنباطين متناقضين، كلاهما صحيحان.
هناك قصة للرسول صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه فقال لهم: [لا يصلِّين أحدٌ العصرَ إلاَّ في بني قريظة]، تأخر بعضهم حتى اقترب وقتُ المغرب، فاختلفوا هل يقضوا العصر في بني قريظة، أم يصلوها حيث هم لحُرمة الوقت.. البعض صلاها والبعض قضى الصلاة، ولم يعاتب النبي عليه السلام أيًّا منهم، بل أقرَّ كلا الفريقين على ما اهتدوا إليه بفكرهم وفهمهم.
للإنسان حرية التفكير، وليس لأحد أن يلقِّن أحداً تلقيناً أعمى، وللآخر أن ينهج النهج الذي يراه، شريطة ألاَّ يتَّبع الهوى، بل أن يُحكم عقله، ثم اللهُ يهدي من يشاء، الحلال بيِّن والحرام بيِّن، ومن حق كل إنسان أن يختار طريقه التي يراها صواباً.
بل لنذهب إلى أعمق من ذلك، إلى اعتناق الإسلام الذي هو يقيناً أفضل الأديان وأصحها.. يقول الله تعالى في ذلك: {لا إكراهَ في الدِّينِ قد تبيَّن الرُّشدُ من الغي}، ومن يدَّعي أن الإسلام انتشر بالسيف، فهو ادعاء باطل؛ لأن المسلمين لم يحاربوا المشركين أنهم أشركوا، بل حاربوا أولئك الذي منعوا انتشار الإسلام ووقفوا في وجه المسلمين.
البعض يملك فكراً يراه منطقيًّا، ويحاربك لأن منطقه أصح من منطقك.. لكن متى كان المنطق منطقيًّا؟
لكل إنسان منطقه الخاص، قد يتعارض منطقي مع منطقك، لكنَّ كليهما صحيحان، من حقك أن تتمسك بمنطقك، وبالمقابل من حقي أن أتمسك بمنطقي، على أنه ليس من حقك أن تخطِّئ منطقي كما لا يحق لي أن أخطئ منطقك، وكلُّ إنسان يمشي بمنطقه.
حتى لو تناقض فكري ومنطقي مع فكرك ومنطقك، قد نكون كلانا على صواب.. ما الحروب وما الإرهاب الذي تفشَّى في عالمنا الإسلامي والعربي إلاَّ لأن الآخرين يختلفون عنا في فكرهم فحاربناهم وقاتلناهم، بل وقتلناهم، في حين أننا لو ارتضينا الرأي والرأي الآخر، ولم نتبِّع الدوغمائية في تعاملنا مع الآخرين، لكان السلام هو الشعار الذي نحمله في قلوبنا قبل أبداننا.
الحوار السليم هو الحوار المبني على الأخذ الفكري والعطاء، وليس على التلقين والإكراه العقلي.. قل ما شئت واتركني أقول ما أشاء.
لنكن أكثر تماسكاً أمام الآخرين ولا نتركهم يلقنوننا ما يتوجب علينا فعله، بل علينا أن نسلك الطريق التي نراها صحيحة من وجهة نظرنا، لا من وجهة نظر الآخرين.. قد تحتار في بعض أمورك وتطلب المشورة أو النصيحة، استمع، ولكن بعد هذا الاستماع طبِّق ما يليق بفكرك واقتناعك ومنطقك الخاص، ولا تأخذ كلام الآخرين على أنه إلزام والتزام، بل هو نور عليك الاسترشاد به، وليس عليك سلوك شعاعه كما هو مرسوم وموجَّه.
حتى الحياة ذاتها لا تُذْعِن إلى توجيهاتها، بل فكِّر وطبِّق ما يهديك إليه فكرك.. هناك طريقان أمامك توجَّب عليك سلوك إحداهما، فإن لم تعجباك، اسلك الطريق الثالثة غير المرسوم.
التعليقات ()