قلتها من قبل، وأعيدها من جديد: هذا ليس معرض كتاب، إنما معرض ثقافة.
حينما تزور الحدائق ربما أشد ما يلفت انتباهك هي الزهور بألوانها وأشكالها الرائعة، لكن المكان في الحقيقة مليء بألوان ومباهج أخرى مختلفة، هكذا المعارض نلتفت فيها إلى الكتب بعناوينها ومحتوياتها وأغلفتها المتنوعة، غير أننا نعيش أجمل لحظات المعرض في لقاءاتنا الثقافية مع أناس ربما لا نلتقيهم إلاَّ في مثل هذه المواسم فقط.
هذا العام لم ألتقِ بالجميع، هناك من غاب عن المعرض، وهناك من أنا الذي غبت عنه إذ أتيت متأخراً بضعة أيام، وهناك من جاء ولم يصادف أن ألتقيه، وهناك من رآني من بعيد وخجل أن يقترب، أو سلَّم عليَّ من بعيد ولم نقترب.
أبطال كنوز المعرفة تعرفونهم جميعًا بلا شك، لا حاجة إلى أن أذكرهم ههنا، وهذا العام ثمة إضافات في الكتَّاب، إن لم تلتقوا بكتبهم في المعرض فكتبهم متوفرة في المكتبات، لا تفوِّتوها.
وأما الرائعون في دار بوك لاند فمستمرون في إبداعاتهم وجميل عروضهم كما هو ديدنهم في كل معرض، لا يمكنك أن تزور ركنهم إلاَّ وتخرج محمَّلاً؛ إما بإصداراتهم، أو بابتسامة رسموها على وجهك دون أن تشعر.. هذه المرة تحادثنا كثيراً أنا والدكتور محمد العنزي، صاحب الشاي الأحمر، تعمقنا في مواضيع نفسية وفلسفية واجتماعية، ولن أقول مذهبية كذلك حتى لا أقع في المشاكل.. وبلا شك لم يخلُ حديثنا عن المرأة التي هي موضوع كل حديث.
الصديق الكاتب أحمد الراشدي، صاحب الرسائل، زيَّن بوك لاند هذا العام بإصداره معنا، الأمر الذي جعل الركن يزداد حِراكاً، فهو إلى جانب بشاشة وجهه، متحدثٌ لبق وظريف، ويعرف خارطة الطريق إلى قلوب قرائه وزوَّاره، سألته أن يفك لي شفرات هذه الخارطة، لكنه أبى وادَّعى أنني أملك المفاتيح.. غير أننا نعلم أن مثل هذه المفاتيح لا نملك نقل ملكيتها.
ومن البداهة أن أذكر حزام راشد، الصديق القديم والكاتب المتمكن الذي لا يمضي معرض كتاب إلا ونلتقي فيه، لكننا مع ذلك _ للأسف _ لم نجلس حتى الآن جلسة واقعية مطولة، وأعترف أنني السبب، إذ أكون بعيداً دائماً ولا أستقر، فإن اسقرَّيت فاستقرارُ شجرةٍ مزروعةٍ لا تتزحزح من مكانها.
أيضاً أُعلن تقصيري عن زيارة ركن حدائق الفكر، هم المتميزون في إثارة الجو الثقافي لدى زوَّارهم، الركن الذي كلما زرته تعرفت على شخصية جديدة ملهمة لديهم، زرتهم مرة واحدة فلم أجد نصراء ولا شيخة، وقررت معاودة الزيارة، لكنني لم أفِ بقراري.. وكان معي الصديق الرائع الزعابي ولمياء.
ألم أحدثكم عن الكاتب محمد الزعابي؟ لا يمكن أن يمر معرض كتاب إلا وألتقيه، يشبهني في أنه لا يستقر في موضع؛ لذلك مواضيعنا مشتركة، وجولاتي غالباً معه، ويشبهني في أنه الآن هنا، ثم كالشبح يختفي فجأة، لهذا نلتقي ثم نختفي فجأة عن بعضنا دون سابق إنذار.
وهناك قارئة كنت أعرفها في العام الماضي، قرأت لي أنثىٰ بطعم السكر وأشادت به، فوجئتُ بها هذا العام تتعرَّش مكانًا عظيماً بين صفوف الكتَّاب في كنوز المعرفة، هي الكاتبة الرائعة لمياء عبد الرحمن، أصدرت كتابها (ذاكرة من العدم).. لم أقرأه بعد، لكنني تصفحت بعض نصوصه فلم أرَ العدم.. هذه ذاكرة أتت من فكر عميق، ومشاعر جيَّاشة، وقلب متخم بالبراكين الثائرة، أجادت صياغة حروفها ليس بعاطفة فقط، لكن بذكاء.. أهدتني مع كتابها ميدالية صغيرة تشبه قلمي؛ على هيئة رائد فضاء يليق بكاتب خيال علمي، وكان من المفترض أن أحتفظ بها إلى الأبد، لكن نظرات ابني عُمر وهو يراها لم تساعدني أن أقاوم، فأهديتها إياه.
وكان من بين زوَّارنا رجلان من (الجمعية العمانية للأشخاص ذوي الإعاقة السمعية)، جلسنا نحاورهما بلغة الإشارة، منحونا بطاقة فيها الإشارات التي يمكن استخدامها كي نتحدث، وكانا مرحين جدًّا إلى درجة لم نشأ أن يرحلا.
كما أنني التقيت مصادفة بالأستاذ خالد الهنائي، أعرفه في الفيس بوك ثم هو فجأة أمامي، تبادلنا الأرقام مع موعدٍ للقاءٍ قريبٍ إذا زار مسندم بعد المعرض.
وشهاب الحجري.. هذا أكبر من أن أتحدث عنه في سطور، إنه فاكهة المعرض، وهو يعلم أنه فاكهة، يستحيل أن تمر بقربه دون أن تبتعد عنه مبتهجاً، لم ألتقِ في هذا المعرض للأسف بأبيه زكي الحجري (صاحب مكتبة 234)، ولم أصادف عمته أميرة الحجري، كانا عطر المعرض العام السابق، غير أنني رأيت بقية الأسرة (أسرة الأُنس)، الذين إذا مروا بركن في المعرض مروا كِراماً وخِفافاً، يفتعلون بعض الضجة، لكنها ضجة محببة تخلق البهجة.
ماذا؟ النادي الثقافي؟.. أنا لم أتحدث عنهم، فلماذا تسألونني؟.. دعوني أُكمل.
الكاتب عبد الله مسعود، زميلي في أدب الخيال العلمي، الذي يملك الكثير من الأفكار العبقرية في قلمه، تحدثنا كثيراً عن الخيال العلمي وكيف أننا بحاجة إلى زملاء آخرين يكتبون في هذا المجال، وإلى قراء يجب أن نلفت انتباههم إلى هذا النوع من الأدب المفقود في وطننا، نحن نعيش واقعاً يشبه الخيال العلمي، فكيف لا نقرأ فيه؟
عبد الله عرَّفني على قارئ، اقتنى روايتي على حافة الخلود، فلما أراد الرحيل فوجئ باسمي على الرواية فارتدَّ عائداً يسألني: أنت صاحب (تحت ظل الظلال)؟
كان مبهوراً بالرواية، ولم يتوقع أبداً أن يراني هنا، وبقي فترة طويلة يشيد بالرواية ويبني لها برجاً عاجيًّا، جعلني مبهوراً به؛ قارئ يعرف كيف يتحدث عمّّا قرأ.. تحادثنا لاحقاً عن طريق الرسائل أنه ينوي إنشاء منصة يتحدث فيها عن الكتب التي قرأها، قريباً سيبرز لكم.. الرائع معاذ الهنائي، لا تنسوا هذا الاسم، تابعوه حين يظهر.
تسألونني عن أهم شخصية التقيت بها في المعرض؟ إنه أصغر قرائي سنًّا، لكنه _ ما شاء الله _ كبير في ثقافته، يقرأ كبار الكتب، ويتحدث بطلاقة واحترافية، وله مقاطع فيديوهات في حسابه يشعرك أنه عملاق وله في مستقبله بإذن الله شأن كبير، إنه المُعلى الهنائي، فإذا نظرتَ خلفه ورأيت أمه تقف هناك عظيمةً، عرفتَ سرَّ عظمته.. وفي اليوم التالي زارني مع والده يحمل حلوى عمانية محفوظة في وعاء مصنوع من سعف النخيل، أخبرني والده أن هذه الطريقة تحفظ الحلوى أطول فترة ممكنة.. أهداني الحلوى ورحل.. هكذا ازداد الطفلُ عملقةً، وشعرت أنا أنني صغير من شدة الخجل.
لم أتحدث طبعاً عن الجميع، ولو فعلت فلن أنهي هذا المقال، إنما تحدثت عن مواقف متفرقة هنا وهناك.
تسألونني عن مقتنياتي للكتب في هذا المعرض؟.. بخلاف الكتب التي أُهديت لي، لم أشترِ لنفسي ولا كتاباً واحداً، الحقيقة أنني احتفظت بالمبلغ الذي كان معي كي أملأ سيارتي وقوداً وأعود إلى خصب، لو لم أفعل هذا للبثتُ في مسقط إلى يوم يُبعثون.
أما في يوم الجمعة، قبل انتهاء المعرض بيوم واحد، كانت لنا جلسة غداء مع جهابذة كتّاب كنوز المعرفة في منطقة الخوير، وهي جلسة تتكرر في نهايات كل معرض.. ومع لذائذ الطعام التي يختارها (أربابنا/ كفيلنا) محمود اليعقوبي، نلتذ كذلك بأشهى الكلام وألذ أشكال الضحك، في صحبةٍ جميلة لا تتكرر إلا في العام مرة واحدة.
وأخيراً، في هذا المعرض كان لديَّ إصداران، أحدهما في دار بوك لاند بعنوان (على حافة الخلود)؛ رواية تجمع بين البوليسية والخيال العلمي، وآخر في مكتبة كنوز المعرفة بعنوان (خذها ولا تخف)؛ مجموعة قصصية عن الخوف.. دعكم من العنوانين ودعكم عن محتوى الكتابين، إن لي قراءً يهمهم اسم المؤلف (محمد قرط الجزمي) على غلاف الكتب، ثم هم يثقون بالمحتوى.. شكراً لهؤلاء.
التعليقات ()