الذي يخبرك أن السعادة تنبع من ذاتك، لقد ظلمك في مقولته.
السعادة تشبه شعلة النار، لا يمكنك أن تزكِّيها من دون وقود، فإذا وُجد الوقود فأنت بحاجة إلى الحرارة، وإن توفرت الحرارة فالأكسجين، المحفزات ضرورية كي تُخلق السعادة في قلبك.. دعك ممن يكلمك بلغة الأفيون كي ترتخي وتبتسم كأنك فعلاً سعيد، هذا تخدير للحقيقة وتشويه للواقع.. صدقني، أنت لست سعيداً.
المال لا يصنع السعادة، عبارة يرددها كثيرون بطريقة تواترية، فإن كان الذي يقولها غنيًّا فهو لم يجرِّب الفقر، وإن كان فقيراً فهو يخدع نفسه، يحاول أن يرسم السعادة في قلبه رغماً عنها.. الفقراء تعيسون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تعوَّذ من الفقر في دعائه، وبالمقابل كان يدعو بالغنى.. لا أقول إننا بحاجة إلى أن نكون أثرياء كي نحظى بالسعادة، لكن الغنى الذي يغنينا عن العوز هو ما نطلبه، أن يكون عندنا كفاف يومنا، أن يدفع المرء فواتير هاتفه والكهرباء والماء، أن ينام وهو قادر على أن يوفر العشاء لعائلته، أن يستطيع إذا أراد الخروج من بيته بسيارة فيها وقود، أنه إذا دُعي للخروج مع رفاقه وأصدقائه لا يعتذر منهم متعللاً ببعض العلل، في حين أنه محرج إذا خرج معهم وطلبوا من المطعم، أنه لا يملك من المال ما يجعله يقول: عشاؤكم اليوم على حسابي، فيبقى صامتاً ورفاقه يتعازمون.. كيف لإنسان كهذا أن يكون سعيداً؟.. لو ادَّعى السعادة فهو أبله.
لا أقول إن السعادة بالمال، ولا أدَّعي أن الأثرياء سعيدون، لكنَّ المال يصنع السعادة، والفقر يصنع التعاسة والحزن، وأكثر البؤس نتاج الفقر والعوز.. لا تحاول أن تقنعني أن قارئاً مخضرماً لا يستطيع أن يشتري كتاباً سعيد، ولا تحاول أن تقنعني أن كاتباً مبدعاً لا يستطيع أن ينشر كتاباً سعيد، ولا تحدثني عن الفقير الذي يجالس عائلته في الليل يتضاحكون ويتسامرون أسعد من غني يجلس وحده في منزله، فهذا الفقير إذا سمع كلمة من طفله اغتمَّ، وذاك الغني يملك بماله أن يرفِّه عن نفسه.. ولا تقل لي إن الغنى لا يأتي بالصحة، فالصحة تحتاج إلى مسببات، وأكبر مسبب له الدواء، وافتح صفحات كتاب الحياة تخبرك عن جمعٍ غفيرٍ من البشر ماتوا لأنهم لم يجدوا دواء لأمراضهم، أو لم يقدروا أن يحصلوا على عمليات جراحية تعالجهم، فماتوا وعمَّ الحزن أهليهم وذويهم.
هنالك حالة واحدة يمكنها أن تجعلك سعيداً وتُخرج السعادة من عمق ذاتك، هي أن تملك شيئاً يحفِّز السعادة داخلك.. فالذي يملك مزرعة جميلة مثلاً وينظر إليها نظرةَ قناعة، ويحدث نفسه أن حاله خير من أولئك الذين لا يملكون مزرعة مثلها، هنا يسعد.. الذي يعيش بجوار البحر، يستطيع أن يزرع السعادة في قلبه حين يقارن نفسه بالآخرين الذين يعيشون في المدن وليسوا يستمتعون بمنظر البحر ولا يستمعون إلى أغاني موجِه، هنا يشعر بالسعادة.. والذي يجالس أهله ويضحك معهم ويشعر بألفة الكون حوله، فينظر إلى كل هذا ويقول أنا سعيد، هنا يسعد.. كل هؤلاء سعداء صُنعت سعادتهم من داخلهم، لكنها سعادة ليست ذاتية، بل موجَّهة، محدودة بحدود الزمان والمكان والحال، لن تلبث بعد حين أن تضمحل ويحل محلها البؤس والشقاء إذا نظر إلى حياته وواقعه.
الحديث بمثالية مبهج ويريح النفس، تماماً كالمخدِّرات، لكنه بالمقابل يقتل الحقيقة.
لوحة بعنوان (بؤس الحياة)، أو (المأساة).. لـ بابلو بيكاسو
التعليقات ()