الكل يتغنى بالبدايات أنها أجمل وأحلى والناس فيها ملائكة، ثم تأتي النهايات فتتحول الملائكةُ فيها إلى شياطين والحلاوةُ إلى قساوة.
لكن الحقيقة التي تغيب عنا هي أن لهفتنا للبدايات طبيعية، كالطفلِ في أول أيام دراسته يرى المدرسة حديقة غناء، وكالشابِ يأخذ رخصة القيادة فنراه طيلة وقته يتلهف متى يستيقظ صباحاً ليقود سيارته، وكالحبيبِ يشتاق لحبيبته بقوةٍ كلما غابت عنه ويُريها أجمل ألوان الغزل.
طبيعي تماماً أن كل هذه الأمور تخفت مع الزمن، ويتدرَّج الحال حتى تختفي اللهفة الأولى، فيقع اللوم الذي يترتب عليه العتاب المتكرر، حتى يسأم الطرف الآخر فيرحل.
حتى القارئ المخضرم للكتب، قديماً كنا نمسك الكتاب فترتجف أيدينا لهفة من شدة الفرح بهذا الاقتناء، ومهما كانت ظروفنا نقرأ، لكننا اليوم، مع مرور كل هذه السنين، بدأنا نتعامل مع الكتاب تعاملاً مختلفًا، لم نتغير لكننا نضجنا، وهذا لا يمنع أن يأتي كتابٌ فجأةً ليفجّر بركان اللهفة فينا من جديد.
الطفل تخفت لهفته الأولى للمدرسة، خاصة مع التعب والإرهاق وكثرة الواجبات والمذاكرة، فلو كان المعلم قاسياً زاد الأمر من نفوره، لهذا تختفي لهفته مع الزمن، بل قد تتحول إلى ضيق، وربما إلى كره.
والشاب المتلهف لقيادة السيارة تخفت لهفته مع الوقت، وهذا طبيعي، فإذا استغلَّه أهله في طلباتهم ومشاويرهم، زاد الطين بلة، وربما مع الزمن تتحول اللهفة إلى ضيق، وقد يصير الضيق كرهاً.
والعلاقات الإنسانية تشبه كل هذا، الحبيب تخفت لهفته مع الزمن، لا أقول شبع أو تشبَّع، بل هي طبيعة إنسانية أن ينفد شحنُ لهفتك للأشياء مع الزمن، وبدلاً من تأجيج مشاعر اللهفة من جديد، تتلقى العتاب واللوم إلى أن تتحول اللهفة إلى ضيق، فإذا زاد عن حده، قد يصل إلى الكره.
تعاملنا نحن هو الذي يخلق النهايات السوداء للبدايات الشفافة البيضاء، فنظن أن الشخص قد ظهر على حقيقته، متجاهلين حقيقة أن هذه طبيعة بشرية؛ لهذا يرددون أن البدايات أحلى، والنهايات أصدق، وليست هذه هي الحقيقة دائماً، الأمر أشبه بفوران الماء فوق النار، مع الزمن نرى الماء يختفي، غير أننا لو أنصفنا وعرفنا الحقيقة، سندرك أن الماء إنما تحول إلى شكل آخر من أشكال المادة، وربما لو صبرنا قليلاً ستمطر لنا السماء بسبب هذا التغير.
أيضاً العلاقات لا أقول تتغير، إنما تتحول إلى شكل آخر يليق بالتطور الحاصل بين الناس، فالحب مثلاً في فترة الخطوبة لا يشبهه في فترة الزواج، ولا لون الحب في شهر العسل كما هو بعد عشرين عاماً من الزواج، لم يتغير الشخص، إنما تغيرت طريقة تعبيره عن الحب.
وهذا ينطبق على كل شيء، لكننا نستعجل ونحكم على الطرف الآخر أنه تغير، فننبذه، وشيئاً فشيئاً تتحول البدايات الحلوة إلى نهايات شديدة المرارة.. كلا، هي لم تتحول، نحن الذين لوَّناه بهذه القتامة.
التعليقات ()