تتطور الدنيا من حولنا، ونبقى نحن متخلفين نتمسك بالأوراق والكتب.
لقد تجاوزنا عصر الملتميديا، وما زال هناك من يرى الثقافة تتركز على رفوف المكتبات، وبين أسطر الكتب، يتعامَون عن حقيقة أن كثيراً من المكتبات قد أغلقت أبوابها فعلاً، وأن الناس تتجه إلى ما يثير ثقافتها بطرق تتناسب ولغة العصر.
هذا هو لغة العصر فعلاً، لكن من أخبرك أنك مُلزم على مواكبة العصر بكل لغاته؟
للأسف الشديد، هكذا يفكر الكثير من الناس، انغمسوا في عالم التقنية المرئية، جاهلين أن النشاط الفكري يقل مع المرئيات، وأن ما يعتمدون عليه في اكتساب ثقافاتهم (التلفزيون والمقاطع المرئية أو الصوتية)، تقلِّل عمليًّا من حركة الدماغ، واكتسابهم الثقافة بهذه الطريقة ينخفض بنسبة كبيرة مما إذا اعتمدوا على الكتب والورق والقراءة.
إن من طبيعة الإنسان إذا ما أراد التفكير في أمر يهمه، يغلق عينيه ويركِّز ذهنه إلى ما في داخله، يحجب عن عينيه كلَّ مشتتٍ من الممكن أن يجعل تفكيره يضمحل، فالمرئيات التي يعتمدها كثير من الناس لاكتساب معارفهم، هي ذاتها التي تجعل نشاطهم الفكري يقل، فتصبح المعرفة جامدة لا حياة فيها، بعكس ما إذا كنت تحاول أن تكتسب معرفتك من خلال الكتب والقراءة، هنا يندمج الفكر مع المعرفة لتخلق منك مثقفاً حقيقيًّا.
دع عنك الحلول الجاهزة التي تقدمها قنوات المرئيات بشتى صورها، الأشياء الجاهزة لا تدوم، إنها تعطيك سمكة جاهزة، وتمنعك من أن تتعلم كيف تصطاد أو كيف تطبخ هذه السمكة، أما الكتب فتنقلك إلى أبعاد ثقافية مختلفة، فيها المعرفة والفكر والأدب، تستطيع معها أن تتوقف بين الحين والآخر لتخاطب الكاتب، لكن المرئيات لا تتيح لك مساحة كبيرة من هذه المناقشات الفكرية، ربما لهذا اضمحلَّ فكر الكثيرين، فصاروا يميلون أكثر إلى التفاهة المرئية التي يقدمها من يبحث عن الشهرة بأقصر طرقها، إذ كثيرٌ مما يُقدَّم في وسائل التواصل يتم إنتاجه في دقائق، فإن زاد فبضعة سويعات، ثم إذا هو ينتشر في العالم انتشار النار في الهشيم، لكن كتاباً أنجزه كاتب اجتهد في صياغته أشهراً، قد لا يلقى اهتمام (المثقفين) اهتمامَهم بتفاهات مواقع التواصل.
إن الطبيعة البشرية تنجذب بلا شك إلى المثيرات المرئية، هذا لا خلاف فيه، كلنا ننجذب، حتى الكتب ذاتها تعتمد على جذب أعين القراء من خلال الغلاف الجميل، والتصميم الرائع للكتب، سواء التصميم الخارجي أو الداخلي، هذا أمر جُبِلنا عليه كلنا، على أن الانجذاب الفكري عليه أن يكون أقوى عند المثقف خاصة، تماماً مثلما تأتيك مسألة ذهنية، الغالب أنك تغلق عينيك، تسدهما عن أي مؤثرات مرئية، وقد تغلق أذنيك فلا تسمع الأصوات من حولك، تفصلهما عن أي مؤثرات صوتية، ثم تدخل في عمق ذاتك، وهناك تسبح في فكرك سباحة حرة، تخرج بعدها وقد ملأت ذهنك بلآلئ لا تُقدَّر بثمن.
بهذا، أنت مثقف حقيقي.
التعليقات ()