منذ شهور كنت أتحدث مع جارتي بشأن أسلوب التسول الذي ينتهجه بعض المغتربين في بلادنا طريقةً للعيش والكسب السريع، وأخبرتني عن موقف حدث لها أمام بقالة حارتنا حين اقتربت منها امرأة من جنسية عربية ومعها أطفال وبدأت تقول أنهم يتضورون جوعا ولا يجدون ما يُبقي على رمق الحياة في أوردتهم، أشفقت جارتي على أطفالها وقالت لها: سندخل البقالة الآن وخذي كل ما تريدين من أطعمة ومشتريات وأنا سأدفع، لكنها أصرت على أنها تريد نقدا وليس طعاما، عادت جارتي لتخبرها أن الطعام وحده يقتل الجوع وادخلي معي البقالة، لكنها رفضت مرة أخرى، ولأجل أن تُخرج جارتي نفسها من الموقف لالتزامها بأعمال أخرى قررت أن تعطيها مبلغا من المال وتذهب، حين ناولتها إياه جاء ردها: "هذا اللي طلع بإيدك؟!"
قالت جارتي: حينها تأكدت أنها تكذب وأنها لا تطعم أفواهًا جائعة كما تدّعي.
هذا الموقف أعادني لذكريات حدثت معي في إحدى سفراتي، إذ كان مشردو الشوارع وبعض فقراء تلك البلاد يأتون للتسول داخل المطاعم وعلى عتباتها، وحين كنتُ أمد يدي بأي مبلغ قد يعينهم كانوا يرفضون أخذه، ويشيرون لي بأيديهم إنهم يريدون طعاما فقط، وتكرر الموقف مرات عدة، حين يرون المال يرفضونه ويشيرون إلى الطعام، تعجبت جدا من رفضهم المال رغم شدة فقرهم - ما أثبت لي ذلك هيئتهم الرثّة جدا وملابسهم البالية - وما دفعهم للتسول سوى شبح الجوع الذي يقتات منهم في الطرقات فيدفعونه بتناول الفتات من حاويات القمامة أو طلبه من أصحاب ومرتادي المطاعم حتى يبقون على قيد الحياة في ظل الظروف المعيشية العاصفة في تلك الدول، وغياب منظومات الحماية الاجتماعية وتهميشها لهم.
يومها عرفتُ أن بعض التسول وسيلة وحيدة للنجاة، وأنه لم يعد أمامهم سوى الاستسلام للجوع والبرد أو تسوُّل الطعام وتوسله من الآخرين.
جعلني هذا الأمر أفكر مليًا في مشكلة التسول باعتبارها متعددة الوجوه ومربكة وخادعة؛ فكيف أعرف أن الذي يتسول أمامي محتاج حقا أم أنه يتظاهر بذلك للاحتيال على الكفوف البيضاء ويحصل على المال بطريقة سهلة دون عناء؟
لا توجد إجابة لهذا السؤال؛ إذ إن الإقدام على هذا الفعل يتطلب قدرا كبيرا من أشياء كثيرة؛ من الشجاعة، والقدرة على الاستعطاف والذي بدوره يتطلب مهارة عالية في التمثيل واستخدام لغة الجسد والكثير من الذكاء الاجتماعي والعاطفي، واختيار الموقع والتوقيت المناسبين للتسول، وضمان البقاء بعيدًا عن أعين الأمن والسلطات، واستهداف فئة محددة من الناس ممن يبدو عليهم أنهم "عيال نعمة".
كل هذه التقنيات تضعك في موضع ارتياب وشك يحملانك في أحيان كثيرة إلى رفض المساعدة والمضي بعيدا، وتكون حينها قد تجنبت وضع مالك في أيدٍ غريبة لا تدرك أين سينتهي بها تلك الأموال، ربما في أعمال غير مشروعة حتى، ناهيكم أن بعض هؤلاء المتسولين دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية وحين الإبلاغ عنهم يتم حجزهم وترحيلهم إلى بلادهم، ووجودهم غير القانوني بحد ذاته يشكل تهديدا للأمن الاجتماعي للبلاد، إذن علينا جميعا الإبلاغ عن أي حالات تسول باعتبارها مسؤولية وطنية منوطة بنا، وأن نضع أموال زكواتنا وصدقاتنا في قنوات التبرع الرسمية والمعتمدة من وزارة التنمية الاجتماعية والجهات الرسمية الأخرى.
وإن كنا نود بعض المساعدة في مواقف كتلك، فتقديم بعض الطعام والكساء للمتسول أكثر من كافٍ، ولكن الأهم أن نوجهه إلى الوصول إلى الفرق والجمعيات الخيرية التي يمكنها تقديم المساعدة له - إن كان حقا بحاجة إليها.
ومع ذلك، ومع استقبالنا هذه النفحات المباركة، فجميعنا نعلم على وجه اليقين أن هنالك الكثير من الأسر التي ترزح تحت وطأة العوز والفاقة، ولكن عزة نفسها تجعلها تترفع عن سؤال الجار والقريب، فتمر عليها أيامٌ ربما لا تجد فيها سوى الأسودَين - التمر والماء - وتعيش على المعونات التي تقدمها الجمعيات الخيرية، والتي بدورها غير قادرة على تغطية الطلب المتزايد على مواردها، ومن هنا يأتي دورنا في أن نكفل بعضنا ونتكاتف، أن نضع سلالا رمضانية أمام بيوتهم على سبيل المثال تحوي بعض المواد الغذائية الأساسية، أن نرسل لهم بعض أطباق الفطور والسحور، أن نتبرع للجمعيات والفرق الخيرية، أن نخبر هذه الجمعيات عن حالات الاحتياج الشديدة التي نعرفها، أن نعيش روح رمضان وجوهر فرضه، فرمضان ليس شهرًا لحرمان المعدة من الطعام لخمس عشرة ساعة، بل هو شهر الإحساس بما يعيشه آخرون لمدة اثني عشر شهرا، فنفهم ما يعنيه الجوع، وندرك ما يعانيه ملايين الفقراء والمغتربين والمشردين حول العالم، فنوقظ الامتنان في داخلنا على جميع أنعم الله التي اعتدنا عليها حتى نسينا قيمتها، ونشكر الله على آلائه وأنه فضّلنا على كثير ممن خلق تفضيلا.
دعوة أيها الأحبة لنمنع ظاهرة التسول في هذا الشهر وغيره من الشهور، وأن نمد أكفنا إلى منافذ الخير الصحيحة، وأن نعتني ببعضنا، فرمضان لغة الحب والتكافل.
أيتها الكفوف البيضاء ليكن شعارنا في هذه الأيام المباركة: لا تتسول.. لا تتوسل.. وضع مالك حيث يصل إلى مستحقيه بأمان.
بارك ربي شهركم وطاعاتكم وأجاب دعواتكم ورزقكم ما تشتهي أنفسكم وتتمنون.
روابط المقالات السابقة للكاتبة
المقال الأول: أشياء لا تُرى
المقال الثاني: في ذكرى ليلى حارب
هذا المقال الثالث: لا تتسول.. لا تتوسل
التعليقات ()